حسابات النصر والهزيمة
قرأتُ بعض الآراء هنا وهناك تتساءل عن جدوى التوصّل إلى اتفاق هدنةٍ بعد هذا العدد الكبير من الشهداء في فلسطين، وتدمير البنية التحتية في قطاع غزّة. فما الداعي (من وجهة نظرهم) إلى خوض هذه المعركة إن كنّا سنصل في نهاية المطاف إلى اتفاقٍ لإنهائها؟ أليس في هذا العدد الهائل من الشهداء دليل على خطأ خوض معارك "خاسرة"؟ أليس من الجنون خوض هذه الحرب من قبل فصائل معزولة إلا من بعض الداعمين (حزب الله وإيران)، وربّما مصر الشاهدة، كما إخوانها العرب، على أكبر مذبحة جماعية في القرن الواحد والعشرين؟
بحساباتٍ جيوسياسية بسيطة، قد نتفق مع الطرح الذي استغرب إقدام حماس على "عملية انتحارية" ضدّ كيانٍ لا يتورّع، ولو لحظة عن ارتكاب المجازر، أليس في حماس رجل حكيم؟ خاصّة، وأنّ هذا الكيان المدعوم غربياً تلقى منذ اللحظات الأولى لطوفان الأقصى إشارات بالقتل والتدمير بعد تحريك البوارج الأميركية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، والتهديد بالتدخل بشكلٍ مباشر، إن تدخّل أيّ طرفٍ آخر.
بعض هذه الآراء ظاهره العقلانية والحسابات الجيوسياسة المعقولة وباطنه الجبن والخذلان، والبعض الآخر له دوافع طائفية بامتياز، اختار هذه اللحظة التاريخية ليناقش عقيدة الشيعة وأهدافهم في المنطقة. فأيّ أهداف سياسية أو دينية تدفع بإيران إلى المحرقة، وبقطع أذرعها في المنطقة، خاصة في حالة صعود ترامب؟
أصحاب "متى سترد إيران"، و"أن ما قامت به مجرد مسرحية"، أريد أن أسألكم بلسان معمر القذافي: من أنتم؟ في رأيي، وقد أكون مخطئًا، فإيران مُكرهة على خوض هذه المعركة لحفظ هيبتها أمام أتباعها من جهة، وخلق حالة من عدم الاطمئنان لدى نتنياهو الذي بدا منتشياَ باغتيالاته وعملياته العسكرية بالمنطقة.
معايير النصر والهزيمة يُنظر إليها بمنظار التاريخ وليس بلغةِ الحسابات العقلانية الآنية
لقد سبق للرئيس أنور السادات أن شرح هذه الوضع عقب إعلانه وقف إطلاق النار بعد حرب 73، وترك سورية وحيدة تقاتل ضدّ إسرائيل، بالقول بأنّه: لا يخشى مواجهة إسرائيل ولكنه يرفض مواجهة الولايات المتحدة.
لذلك يبدو من الناحية الحسابية والعقلانية أنّ اللحظة الراهنة لا تتطلّب خوض معارك سيدفع أبطالها، وذووهم أثمانًا باهظة، في حين يجلس أحدهم، في مقهى بعيد عن الأحداث بمئات، وربّما آلاف الكيلومترات، ممسكًا بهاتفه الخلوي، محتسيًا قهوة سوداء، ومطلقًا لسانه للتخوين والتنظير، بعد أن كشف بعبقريته سرّ إيران، وألاعيبها في المنطقة!
بالنسبة لمعايير النصر والهزيمة في الحرب الدائرة حالياً، أعتقد أنّه من السابق لأوانه جدًا تقييم الوضع. قد يبدو، وبلغة الأرقام، أنّ إسرائيل هي المنتصرة بعد هذا الخراب الكبير. لكن بمنظار التاريخ لا يمكن أن نخلص إلى نفس النتيجة، فلطالما نُعت المقاومون في كلّ زمانٍ بالتهوّر، كما تعرّضوا للطعن من بني قومهم لإقحامهم في معارك خاسرة، والتسبّب لهم، ولأبنائهم، في المآسي والمعاناة، وتُعدّ معارك عبد الكريم الخطابي في الريف، وعمر المختار في ليبيا، والثورة الجزائرية، ومجمل حروب التحرير في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا مثال على ذلك، لكن بعد التحرير تخرس هذه الأصوات، وينضم الجميع، مقاومين ومشكّكين، إلى الاحتفال بالانتصار العظيم، وهو انتصار قد يخضع بدوره لحساباتٍ جيوسياسية لا مجال لذكرها في هذا السياق. لذلك فمعايير النصر والهزيمة يُنظر إليها بمنظار التاريخ وليس بلغةِ الحسابات العقلانية الآنية.
وحتى بلغة الحسابات والأرقام، من يملك قدرة أكبر على تحمّل الضربات قد يكون هو المنتصر في النهاية، فطرفا هذه الحرب هما إسرائيل بشعبها الذي لا يتجاوز عشرة ملايين مستوطن على أقصى تقدير، بجوازاتِ سفرٍ أوروبية وأميركية، يستطيعون متى شاؤوا، أو متى شعروا بانعدام الأمن، أن يغادروا بلا عودة، مقابل شعوب بالملايين لا تستطيع حتى القنابل النووية التخلّص منها، بعضها مؤمن بالآية الكريمة "وَلَا تَهِنُواْ فِى ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيما"، ومستعد للتضحية بنفسه طلبًا للشهادة، والبعض الآخر لا يتوفر على جواز سفر، أمامه البحر ومن ورائه إسرائيل.