"جي بي إس"

"جي بي إس"

04 اغسطس 2023
+ الخط -

العاشرة صباحاً. نهضت متثاقلة والعرق يتصبّب منّي، بعد أن يئست من النوم في هذا الحرّ الفظيع. أحدهم يطرق الباب طرقاً باليد. آه صحيح، الجرس لا يعمل بدون تيار. أفتح، وإذ بجابي الكهرباء يقدّم لي فاتورة الاستهلاك الشهري. 

بهذا الترتيب بدأت نهاري. 

حسناً. طرق الجابي الباب. فتحت. ناولني الفاتورة. نظرت بعيني من لم ينم لانقطاع الكهرباء منذ صباح اليوم السابق. ظننت أنّي لم أفهم لتعدّد الأصفار. أعاني من مشكلة في تخيّل المبالغ الكبيرة. أين النقطة التي تفصل بين الآلاف والكسور؟ ما هذا؟ سبعة أرقام؟ أربعة ملايين ليرة ونيف؟ أفرك عيني، وأسأله للتأكّد: "كم؟". يقول بصوت فيه نبرة دفاعية: "هذه لشهرين". شهران؟ دفعة واحدة؟ وعلى السعر الجديد غير المدعوم؟ 

أربعة ملايين ليرة. أي نصف الحد الأدنى للأجور تقريباً. احتججت للجابي: "لم علينا أن ندفع لشهرين؟ لم لا يكون شهراً بشهر كما كان سابقاً؟". قال "إنهم" وعدوا بأن يكون كذلك، لكنهم أصدروا تلك الفواتير بالرغم من ذلك. ثم تلعثم بكلام ظنّه الحدّ الأدنى من التضامن بين مواطنين يعانيان من الهمّ نفسه، قائلاً: "ما الذي أستطيع فعله؟ أنا مجرّد جابي، عبد مأمور". 

سبق ذلك ليلة من النوم القلق والمتقطّع، كنت خلاله "أتقلب على نار الشوق" إلى بعض البرودة من الطبيعة عبر النوافذ المفتوحة، محاولة إيجاد أي وضعية لا تحتك فيها أعضاء جسدي ببعضها للتخفيف من الإحساس بالدبق، وتلك الرطوبة القاتلة التي لا تنفك تتفاقم من صيف إلى صيف في السنوات العشر الأخيرة. 

ليلة ليلاء، لا يمكن أن تنام فيها بشكل متواصل. تضع رأسك على المخدة وإحدى أذنيك مشرعة صوب الممر لتسقط تلك الصافرة من جهاز التشريج. صافرة تنبؤك بأنّ التيار الكهربائي الرسمي، كهرباء الدولة، قد وصل، وأنه باستطاعتك أن تشغل المكيّف. 

مذ جرت مضاعفة سعر الكهرباء، قام كثيرون بإلغاء اشتراكهم بكهرباء الدولة غير المنتظمة أساساً

ليس للتيار الكهربائي الرسمي موعد محدّد، ولا ساعات تغذية محدّدة، ولا برنامج تقنين، ولا قوة فولتية ثابتة. قد يكون ذلك في الثالثة صباحاً، فتقوم من السرير والعرق يتصبّب منك لتبديل وضعية "هاوس" الكهرباء: من بطارية التشريج إلى وضعية التيار الرسمي. تعيد وصل البراد والمكيّف وتعود للنوم. لكن ما إن تغفو "مبترداً"، حتى تسمع صوت الصافرة مرّة أخرى، فتنهض مجدّداً، لتعيد وصل البطارية، بعد أن تفصل المكيّف والبرّاد. 

هكذا أقضي ليلتي "داخلة خارجة" على حدّ تعبير عادل إمام. صبح وليل، ليل وصبح. في الصباح تفتح عينيك يائساً من الفوز ببعضِ النوم العميق. تنهض متثاقلاً بعيون متورمة. يقرع الباب. تفتحه. تميّز وجه الجابي في عتمة الممر. يناولك فاتورة الكهرباء لشهرين بأربعة ملايين ليرة، أي مليوني ليرة شهرياً بدلاً من خمسة وأربعين ألفاً أيام الدعم السعيد، الذي تبيّن أنّه لم يكن سعيداً في الواقع، كونه كان "يدعمنا" من جيوب ودائعنا المصرفية التي طارت في النهاية من حساباتنا. 

عشرون ضعفاً زادت التسعيرة. من هو ال "بلا مخ" إلى حدّ أن يفوتر على المستهلك بعد رفع التسعيرة بهذا الشكل المهوّل، شهران بدلاً من شهر؟ 

منذ أن ضاعفوا السعر لهذه الدرجة، كثيرون قاموا بإلغاء اشتراكهم بكهرباء الدولة غير المنتظمة لدرجة كبيرة. فأنت لا تعرف متى "يأتي" التيار ومتى ينقطع. فوضى تقنين تحرم المشترك من تنظيم وقته، لحماية بضائعه المبرّدة على الأقل، أو لمعرفة متى يكون استقلال المصعد مثلاً مأموناً؟

صبّ كلّ ذلك لصالح الاشتراك بمولد الحي، ولو كان مرتفع الثمن، كونه يغطي معظم ساعات انقطاع التيار الرسمي في الليل والنهار. 

كما صبّ لصالح "الاستقلال" عن كهرباء الدولة بالاعتماد على الطاقة الشمسية التي غزت الأسطح مؤخراً في كلّ مكان. حتى في ثكنة الجيش المحاذية لمنزلي، غطّت الألواح السطح كاملاً. حتى الدولة لم تعد تتكل على الدولة. 

إضافة إلى من ألغوا اشتراكهم بعدّادات الدولة، جموع كبيرة اصطفت أمام مكاتب شركة الكهرباء الوطنية في المناطق لاستبدال عداداتها بأخرى أقل قدرة، وبالتالي كلفة. 

هكذا تابعنا على الشاشات مواطنين كثر ينزعون تلك العدادات بعنف ويرمونها في الشارع غاضبين من "تمسحة" أهل السلطة. 

فعلاً؟ 

من هو هذا "الأشبهي"، الفهيم، المنقطع لتلك الدرجة عن أحوال الناس، أو على الأرجح غير المكثرت لهم؟ 

تحتار يومياً لمدى لامبالاة معظم المسؤولين بسوء أوضاع المواطن غير المسبوقة مادياً ومعنوياً واجتماعياً. تتساءل إن كانت تلك اللامبالاة لأنّ المجتمع اللبناني تحوّل إلى نوع من أرخبيل اجتماعي، فقاعات طبقية معزولة فيها كلّ طبقة عن الأخرى تماماً. قد تراها، لكنها لا تحسّ بما يصيبها إن كان ذلك سعادة أو ألماً. 

بات المواطن يتجه بخُطا متسارعة نحو "الاستقلال الذاتي" عن كلّ ما يتعلّق بخدمات الدولة

بات المواطن يتجه بخُطا متسارعة نحو "الاستقلال الذاتي" عن كلّ ما يتعلّق بخدمات الدولة. والميل ليس حديثاً، بل حصل تدريجاً:

 لا مياه؟ نشتري من الخزانات المتنقلة أي "السيترنات" التي بات أصحابها يتواطؤون مع موظفي شركة المياه لقطعها عن المباني، فيستنجد السكان بهم يوماً بعد يوم لتعبئة خزاناتهم الفارغة. 

لا كهرباء؟ ليكن الموّلد أو الطاقة الشمسية. وهذه الأخيرة أفضل لأنها لا تحتاج إلّا لمبلغ واحد ننفقه عند تركيبها ثم بعض الصيانة. 

لا فواتير شهرية ترسلها لنا الشمس، ولا أسعار بنزين مرتفعة لتشغيل المولّد الخاص، كما في القرى، أو مولّدات الأحياء في المدن. 

لا دولة مواطنين متساوين؟ فلننتمي للطوائف، فينالنا منها بعض فتات المساعدات، ونؤمن وظائف، لنا ولأبنائنا، من حصّة طائفتنا في الدولة التي أصبحت اسماً لأرخبيل تحاصص الطوائف. 

لا أمن؟ فلنحمل السلاح للدفاع الذاتي عن بلداتنا في ظلّ التفلّت الأمني، كما يحصل في بعض القرى والبلدات.

 لا عدالة؟ فلنفرّ إلى قرانا البعيدة عن اهتمام المركز، نزرع الحشيشة ونبيعها ونعيش من الممنوعات ومن التهريب، مقابل الاتفاق مع الدولة على مواعيد حرق لبعض المحصول أمام الشاشات من حين لآخر. 

لم يبق إلا أن يستعيض المواطن عن العلم اللبناني بعلم فردي، علمٌ يُعلِم الجميع أنه كمواطن، بات مستقلاً تماماً عن دولة لم تعد موجودة إلا على الورق

لا حياة؟ فلنهاجر. 

لا فيزا؟ فلتكن مغامرة حياة أو موت في تلك القوارب التي ترنو إلى أماكن عيش أفضل. 

لم يبق إلا أن يستعيض المواطن عن العلم اللبناني بعلم فردي، "خاص ناص" كما يُقال، له ولعائلته. علمٌ يُعلِم الجميع أنه كمواطن، بات مستقلاً تماماً عن دولة لم تعد موجودة إلا على الورق.

يقلب الجابي يديه، علامة أنه لا يستطيع فعل شيء فهو "عبد مأمور"، ثم يتقبّل سريعاً (بسعادة تقريباً) أن أدفع له جزءاً من المبلغ بالدولار لعدم وجود سيولة كافية بالعملة اللبنانية التي لمها من السوق المصرف المركزي لجماً للتضخم. هكذا أُجبرت للمرّة الأولى على التعامل مع دائرة شبه رسمية بغير عملة بلادي.

 أغلقت الباب خلفه. استندت إلى الجدار وأنا أمسك بالفاتورة التي دفعت فيها كلّ ما كان معي من سيولة بالعملة الوطنية وفراطة بالدولار.. نظرت إليها للحظات، وأحسست بدموع الغضب والعجز تصعد ببطء، كالمدّ، إلى عيوني. فنهرت نفسي.

يرّن الهاتف. خبرٌ عاجل: "مقتل سيدة في منطقة الأشرفية في بيروت، بعد سقوطها في بيت المصعد الذي تعطل لانقطاع الكهرباء"!. 

السيدة لم تكن تعلم أنّ المصعد معطّل. فتحت بابه بحركة ميكانيكية ودخلته قبل أن تدرك أنّ الكابينة غير موجودة، فهوت على رأسها من الطابق الثامن وماتت على الفور. يقول الخبر إنه جرى العثور عليها بفضل جهاز الجي بي إس.

أتفقد تلفوني: هل نظام الجي بي إس في وضعية التشغيل؟ آه جيد.