جيل آثار النكبة

29 مايو 2023
+ الخط -
قبل 75 سنة، كانت فلسطين على موعد مع نكبة غيرت حياة شعبنا، اقتلعتنا من أرضنا، وبدلت أولوياتنا.

نكبة امتد أثرها إلى يومنا هذا، تجرّعنا تفاصيل آلامها نحن ومن لحق بنا، عشتُ معظم طفولتي في مخيم من الطين والقش، بناه جيل النكبة بجوار الموقع الأثري المسمى خان ذي النون، على أرض صغيرة بأزقة ضيقة جدًا، ننقل مياه الشرب والغسيل حملًا على رؤوسنا، تحضر أمي العجين وتشعل الفرن مرّة في الأسبوع، تغالب تعبها وآثار النكبة باختراع فرحة من مناقيش الزيت والزعتر لمن تحلق حولها من الأطفال، آثار النكبة مطبوعة على دفاتر مدرستنا على شكل شعار لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، لم يسلم من الشعار دفتر الرسم والألوان، وكأنه يمنع علينا الفرح والتفوق إلا في حضن هذه المنظمة البائسة، المعلم والمدير لاجئان مثلنا، لكن العجيب أنهما يقسوان علينا بشدة نستغربها، والأصل أننا في المكان الذي يمسح عن وجوهنا دموع النكبة وصعوبة الحياة، ربما لأن الشعور بآثار النكبة أكبر في وجدان من سلك طريق العلم منا معاشر الأطفال، وربما لأنهما يخشيان على مستقبلنا بعد ضياع أرضنا، وربما لأننا جيل متمرد عنيد تربّى في أزقة المخيمات وعاش الحرمان في كل شيء، فتجاوز إلى مرحلة الرجولة في سن الطفولة.

لم تترك النكبة أي مجال أو جانب من جوانب حياتنا إلا دخلته وحفرت به ذكريات مستمرة لا تنسى

فمثلاً، كنا نخرج للعمل في المزارع المحيطة ونحن في سن التاسعة أو العاشرة لنجمع بضع ليرات نستعين بها على قضاء بعض حوائجنا، ومنطقتنا تشتهر بزراعة القمح والشعير والبطاطا والثوم، ومن اشتغل بواحدة منها فهم قصدي وعرف صعوبة مثل هذه الأعمال على شاب قوي البنية. ومن آثار النكبة أن بعض أقاربي لا أعرفهم ولا يعرفونني إلا بالصور، فقد حملتهم سفن الهجرة من مخيمات لبنان إلى أوروبا قبل أن نلتقي ولو لمرة واحدة، ومن آثار النكبة حرماننا من التواصل مع أبناء شعبنا المنكوبين مثلنا في مخيمات لبنان وسورية والأردن.

وبالطبع لا تواصل مع اللاجئين داخل حدود الوطن. لم تترك النكبة أي مجال أو جانب من جوانب حياتنا إلا دخلته وحفرت به ذكريات مستمرة لا تنسى، كانت قصص الكبار التي ننام عليها ونصحو، تفاصيل المجازر والخراب والاحتلال وهدم البيوت وإجلاء الناس، والأصعب قصص الحسرة التي يرسمون لنا فيها تفاصيل فلسطين، فيحدثنا الكبار عن الجمال والجلال والبيوت والأرض الأملاك، بل إنني سمعت جدتي تتحدث عن الطعام في فلسطين كيف اختلف طعمه في فمها عن الذي كانت تأكله بعد النكبة.

ومن آثار النكبة التي لا تُمسح من الذاكرة أبدًا مواكب الشهداء التي باتت علامة فارقة في مخيمات اللجوء، كنت أقف مع أقراني بعد الصلاة على الشهيد، لأستمع لهتافات الشباب وهم ينادون بالثأر، والمطالبة بتجنيدهم لتحرير فلسطين، وربما أخذنا الحال فنسينا طفولتنا وهتفنا بأعلى صوتنا "يا جنة افتحي أبوابك". ومن أقسى المواقف الشخصية في هذا الباب استشهاد صديق يصنف أنه طفل في معايير غيرنا، ورجل بمعيار آثار النكبة، التحق خالد بالفدائيين ليثأر لأبيه الذي استشهد قبله بأعوام، رجع شهيداً ثانياً، وهو أول شهيد أعرفه من جيلنا، يومها شعرت أننا حملنا حملاً ثقيلاً، صرنا نفكر بالفدائيين وكيف نثأر لخالد ونمسح دمعة أمه التي ما زال شكل وداعها للنعش يجرح قلبي ويهز كياني.

لأول مرة أهتف للشهيد فلا ينبغي أن أبقى على أطراف الجنازة فالشهيد يخصني، تجمعني به صداقة أزقة المخيم، وزمالة مدرسة الأونروا، ومجالس أمهات النكبة. من مظاهر النكبة طوابير الإعاشة وفيها الزيت والطحين والسردين وغيره ومطعم الأونروا الذي بجوار المدرسة، فما أن ينتهي الدوام الصباحي حتى يستل كل واحد من التلاميذ بطاقة المطعم ويجري بسرعة ليأخذ مكانه في الدور، أما أصحاب الدوام المسائي فقد أكلوا ودخلوا المدرسة.

من آثار النكبة صناعتنا لألعابنا بأيدينا، فهذا يتفنن في صنع السيارات من أسلاك الحديد وأغطية علب العصير، وذاك يصنع من إطارات السيارات تسلية يلعب بها، وتلك تجمع الصوف والأعواد لتصنع لعبة تمضي معها سائر اليوم. في النكبة نشطت الحياة الثقافية فسطر شعراء المخيم وكتّابه آثار النكبة شعرًا ونثرًا فكتبوا تفاصيل نسيها الناس بحكم العادة، فعبرت الحركة الثقافية عن وجدان وروح اللاجئ الصامد، وتحت شعار العودة والتحرير اشتد الاستقطاب بين الفصائل الفلسطينية، فتحركت الحياة السياسية وتقاذفتنا تيارات مختلفة، استبشرنا بكل من رفع شعار المقاومة، ولم يكن غريباً على شعبنا أن ينتفض ضد كل نكبات التنازل التي أضيفت إلى النكبة الكبرى، فتظاهرنا ضد كامب ديفيد ورفضنا نهج أوسلو، وزيّنّا بيوتنا بخريطة فلسطين من بحرها إلى نهرها ورفعنا العلم في كل مكان، ولم نعترف بإسرائيل، وربينا أولادنا على أن الموت في طريق التحرير موت في سبيل الله، وكلما حفرت تجاعيد النكبة في وجوهنا تأكدنا أننا سننفض آثارها، وأننا سنعود لمدننا وقرانا، وأن الأمل بالتحرير يزداد كلما اشتد ساعد المقاومة وكلما اهتزت شوارع حيفا ويافا والنقب وتعالت صفارات الإنذار في تل أبيب وما بعدها..

محمد سعدي علي
محمد سعدي محمد
حاصل على تمهيدي الماجستير في الفقه المقارن من جامعة أم درمان، عمل في التعليم، مدرساً ومديراً. يعبّر عن نفسه بالقول: "قبل 75 سنة هُجّر جدي من قريتنا جاحولا في نكبة بدلت أولويات شعبنا، تصارعت أحلامنا مع آثار النكبة، من مدارس الأونروا وشوارع المخيم إلى الجامعة، مزجنا بين العلم والعمل، فلا يمكن لساكن المخيم أن يتفرّغ للدراسة، فالكفاح مكتوب علينا حتى تحرير فلسطين كاملة".