جدول مهام لا ينتهي

14 مارس 2021
+ الخط -

تنتظرك المهام هنا وهناك، تواريخ التقديم النهائية تترصد لك يوماً بعد يوم، لا تكاد تأخذ نفساً بسيطاً لتبدأ المواعيد الختامية بالظهور كالكائنات المحاربة في لعبة إلكترونية تقذفك بالأعداء تصاعدياً بلا رحمة.

هناك، قد يكون للاعب عدّة أرواح ثم "Game over"، أما هنا فلا منقذ لك من براثن القلق والتعب سوى الخيال الذي يجمعك بأحباب غابوا قسراً أو طوعاً بسبب انشغالك عنهم بألف مهمة ومهمة، أو النظر إلى صورك القديمة حيث كان للحياة معنى اسمه الراحة والاستمتاع.

الطعام أصبح وسيلة التسلية الوحيدة، تحاول الهروب من فكرة الاقتراب من البراد كلما شعرت بالملل من ساعات العمل الطويلة. تجد أنه الملاذ الوحيد حيث لن يعاتبك لعدم اتصالك منذ فترة أو عدم وضع "لايكات وكومنتات" على منشوراته المهمة، يأتي صوتها من وراء الهاتف تحادثك عن همومها اليومية، أو تعيد أسطوانة أهمية الإنجاب كي لا تأتي الأربعين سريعاً دون طفل ثالث، ماذا تقول لهذه المرأة التي لا تتعب من الاهتمام بك على طريقتها، أصبح صوتها يعطيني طمأنينة غريبة في هذه المرحلة، أسترجع مع نغماته تلك الحياة رغم كل ما فيها.

قبل أن تستعبدني المسؤولية والالتزام، وارتفاع الدولار الذي لا يرحم ولا يجعل من مرتباتنا سوى قيمة متدهورة يوماً بعد يوم وشعور متزايد بالحزن والقلق إذ تتعب بلا مقابل عادل، يكفي حاجاتك الأساسية على الأقل.

أستطلع وسائل التواصل من وقت لآخر، أقلب الصور بلا هدف، فقط ابتعاداً عن العمل، أحاول الاندماج مع أي شيء دون جدوى، حتى النصوص الأدبية التي كنت أعشقها، أشعر أن عقلي عاجز عن تحليل أي شيء..

فجأة وعلى حين غرة يأتيك أحدهم بكل سفالة ليسألك السؤال المريخيّ: "ليش شو عمتعملي بتضلك مشغولة؟"

أتركها بعد فترة قصيرة وإحساس قهري بالذنب، ثم أقول لنفسي لا بد أن يكون هناك فترة استراحة، أذهب لفيديوهات قصيرة من ابنة أختي، تلك الفتاة التي تقول اسمي بأنغام عجيبة وأحرف مختلفة "ثوثو" ما أعذبها، تطالعني ابتسامتها المتواربة إذ إنها خبيثة الدلع، تحن علينا بقليل من ضحكاتها ثم تحاول إخفاء معظمها كي تبقي على هيبتها، تتبع المثل الذي يقول: " التقل صنعة" ما أعظم عفويتها، وما أشهى هذه المرحلة التي يتمتع فيها الإنسان بحريته من قيود المدرسة والأنظمة الاجتماعية، والعيب والحرام، ومسؤوليات الدور الاجتماعي، وتوقعات الآخرين عنا وكل ما يجعل من حياتي الحالية مجموعة مهمات متراكمة لا تكاد تفرغ قليلاً لتمتلأ أضعافا.

قد يعتبر القارئ هنا أنني أتذمر أو أكره حياتي، على العكس فأنا فعلاً ممتنة للخالق على كل نعمة أعيش فيها، ولكنني فقط أعبر عما يجعل من هدوئي أمراً مصطنعاً هذه الفترة غير المدروسة من أحد..

- الدولة التي أهملت كل مسؤولياتها ما عدا جباية الضرائب وزيادتها تصاعدياً لتغلي شعبها كما تم غلي الضفدع على مهل حتى مات معتقداً أنه يتأقلم مع تصاعد الحرارة شيئاً فشيئاً، ناسياً أن لقدرة الاحتمال حدّا فاصلا.

- المجتمع الذي ألقى بأعبائه على المرأة ضعفين أو ثلاثة رغم أنه ينعتها إلى الآن بالضعيفة فأوكل إليها مسؤولية أعباء المنزل والأطفال، مضافا عليه ضرورة عملها في بلد مثل " لبنان" لا يمكن لأحد الطرفين أن يعمل وحده فيؤمن قوت عياله - وهنا موضوع آخر مختلف عن حقها الأساسي في التعلم والعمل لست بصدد مناقشته الآن- يُضاف إليه ضرورة اهتمامها بالاجتماعيات هنا وهناك وكأنها كائن خارق.

- الجامعات والمدارس التي اعتمدت أنظمة تعلم ومنهجيات لا تراعي وضع أحد، فتستمر بإعطاء المهام والفروض بازدياد غريب، وكأنهم يشتركون مع الفئات الأخرى في سحقنا، إذ لا يمكن من وجهة نظرهم أن يستقيم التعليم إلا بعد أن تستخرج آخر ذرة من طاقاتك لكل مقرر. 
وغير هذه الجهات الكثير والكثير.

ثم فجأة وعلى حين غرة يأتيك أحدهم بكل سفالة ليسألك السؤال المريخيّ: "ليش شو عمتعملي بتضلك مشغولة؟"

هنا تدور في ذهنك ألف طريقة لتصبح قاتلاً مشهوراً، لكنك تحجم في اللحظة الأخيرة خوفاً على البشرية أن تخسر عبقرياً من هذا النوع، لندعه حتى نحاسب يوم الحساب بلطف شديد فقط لتحملنا أشكالاً مشابهة. أمثاله يصحون صباحاً، يطالعون "الواتس آب" أو أخبار التلفاز والبرامج الصباحية المعتادة، وأهم ما يقومون به هو البحث عن صورة ممجوجة كُتب عليها صباح الخير أو جمعة طيبة.

أنا لست أنتقد فراغ هؤلاء، فهذه اختياراتهم، وللآن لم أرسل لأحدهم " بلوكا" رغم أن الهاتف ممتلئ بآلاف المحادثات الهامة التي تضيع أحياناً بسبب رسائلهم المتكررة كل صباح وكأنهم يريدون أن يقولوا لنا أنهم موجودون في حياتنا كل يوم، أنا أحترم وجودهم وأتمنى لهم من قلبي صباحات جيدة مليئة بالورود. ولكن، هلا كفوا هم عن الاعتقاد بأن الناس أمثالنا لديهم نفس المساحات الخالية من أيامهم، وامتيازات إرسال الرسائل الصباحية والأسبوعية. هل يعلمون بأنني في كل عيد لا أنام قبل الفجر لأنني أركض طوال النهار لإنجاز عملي المتراكم هنا وهناك، فأضاعف من الساعات ليتسنى لي استقبال العيد بمنزل أنظف من المعتاد ووجه مشرق، فأركض بعد كل هذا إلى الهاتف لأجيب كل المعايدات التي تبقينا على قيد الحياة بعد فترة انقطاع عن العديد من أصحابنا وأقاربنا المتفرقين في شتى بقاع الأرض.

إلى قائمة المهام التي لا تنتهي أقول لك: سحقاً.. فلتذهبي إلى الجحيم، لن يقهرني ثقل وزنك أو حماقتك في سرقة وقت استراحاتي. سأنال منك عاجلاً أم آجلاً، وسوف أجد وقتاً لنفسي رغم أنفك.

سأجد وقتاً لاستعادة هدوئي كل يوم، ولأنني أستحق حياةً أفضل سأستمر بمقاومة كل ما يسلبني التوازن. فأنا وُلدت محاربة وسأبقى كذلك حتى الرمق الأخير.

AE446E24-991A-4A86-90B6-19E05A562304
سارة البيطار

رئيسة جمعية لبنانية ومدربة مهارات حياتية وكاتبة مبتدئة مواليد 1987.. حاصلة على إجازة في علم النفس التربوي من كلية الآداب بالجامعة اللبنانية، وطالبة إجازة في اختصاص اللغة العربية وآدابها في نفس الجامعة.