جثث تضيئها شموع وقلب اصطناعي

02 مارس 2023
+ الخط -

بينما كنت أتصفح آخر الكتب المعروضة في مكتبة 234 في مسقط، عاصمة سلطنة عمان، تمهلتُ عند الغلاف الأحمر والبورتريه الذي يظهر رجلاً يابانياً مموّه الملامح بمروحة يدوية تقليدية مع اسم غير تقليدي مغرٍ للشراء. بدا الاسم (قصقي فبك) غير مألوف بين الكتّاب اليابانيين الذين اعتادت آذاننا عليهم، فقررتُ اقتناءه فور معرفة أنها مجموعة قصصية بدون الالتفات لنبذة عن الكتاب أو الكاتب، حيث ذكّرني عنوان المجموعة (شموع الجثة) بمجموعة الكاتب العراقي حسن بلاسم "مَعْرِض الجثث"، لذا فكرت بالشموع، وتساءلت: هل ستوجد خواتم فضة لامعة لكارلوس فوينتس هنا! أم ستكون مجموعة يصوّر فيها الكاتب محنة اليابانيين مع الزلازل والتسونامي؟

لقد توقعت كلّ شيء عدا أن تكون القصص بوليسية، لأنني لستُ من عشّاق القصص البوليسية، ولكن الكتاب كان لافتاً، وقد أثارت عطبة الشموع غريزتي لإمساك الكتاب وتصفحه. 

في المجموعة يصوّر قُصقي فُبك الحياة البشرية بصورة مختلفة عن التي ألفناها. تارَة يبدو مثل خط متذبذب على ورقة، وتارة مثل التواء الأعضاء البشرية المستخرجة من جثة. حيث تشرّح المجموعة بطريقة علمية سهلة حركة الحياة المتدفقة داخل شريان، السموم المستخدمة للقتل، نظريات وتجارب عن استمرار تدفق الحياة في بعض الأعضاء الحيوية المنتزعة من الجسد، كالقلب والأمعاء الدقيقة، بعد ساعات من الوفاة وفق شروط معينة. 

يعتقد فبك أنّ الخوف مستحيل مع القلب الاصطناعي ذي النبض المنتظم، على وتيرة واحدة

 لقد وظف "فُبك" علمه لينتج قصصًا ذات تسلسل عقلاني، وإن بدا الأمر مستحيلاً، إنه يقنعك بطريقة علمية متسلسلة مشوّقة، يَحْبكُ خيوطاً سردية لتكوّن صورة بديعة فيما بؤبؤ العين متوّسع، لا تستطيع أن تشيح النظر كي تتضح الصورة المحبوكة كاملة.

 لقد درس "فبك" علوم وظائف الأعضاء الحيوية وعلوم الأمصال، أي أنه كان على دراية وافية بالسموم المختلفة واستخداماتها، والأعضاء البشرية وطريقة عملها ونقاط ضعفها، ومع موهبته السردية، أنتج أعمالًا فنية واقعية، وموضوعية، وعميقة أحيانًا، فلم تكن مجرد قصص بوليسية غامضة، ولكنها كانت واضحة الملامح بمعانيها العميقة، حيث وضّح تضارب الخير والشر في دواخل النفس البشرية، والأنانية المقيتة، ناهيك عن التضحية في سبيل مشاعر صادقة للغاية، تكاد تنعدم مصداقيتها في واقعنا الحالي. 

فمثلا في قصتي "شموع الجثة" و"رد الحيلة" لا توجد جثث صريحة، ولكنهما قصتان ثمينتا المعنى، ذواتا تسلسل متصاعد بمهارة، وتتناولان مسائل أخلاقية حساسة. قصص فبك لا تخلو من الجماليات والأفكار الإبداعية. فمثلا في قصة "الندبات الثلاث"، يطرح فُبك نظرياته حول كيفية جرّ المتهم للاعتراف بجرمه بتسلسل لم يخلُ من العلم والجمال التصويري، الندبة على الخدّ الأيسر بشكل فراشة سوداء سامة، الرمز والمفتاح في آن واحد، لفهم لغز الندبات الثلاث: ندبة الطبيب، ندبة الجاني وندبة الرضيع. 

الصورة
شموع الجثة
شموع الجثة

لقد تبادر فور انتهائي من المجموعة إلى عقلي لغز آخر: لماذا المعلومات حول فبك شحيحة للغاية لا تتعدى المجموعة هذه، ومرجعين باللغة الإنكليزية!؟

فبك لم يكن كاتباً وحسب، ولكنه كان مترجماً أيضا وناقدًا، لكن ربما لأنّ فبك عاصر فترة حساسة في تاريخ اليابان، حيث فُتحت الموانئ اليابانية قسرًا بعد إغلاق طويل للغاية، بحيث كانت اليابان كطفل صغير يحبو، وهي تأثرت حينئذ، بالملامح البارزة والتطوّر في العملاق الغربي، كما تأثر الكتاب اليابانيين بكتابات آلان بو وكونان دويل، وعوملت القصص البوليسية اليابانية كالقصص الشعبية ولم تول أهمية أدبية كبيرة. 

ولكن ماذا عن مؤلفات فُبك العلمية ونظرياته الأخرى؟

لم أجد غير قصة "قلب اصطناعي" باللغة بالإنكليزية، والتي عُدّت لاحقا بذرةً لنشوء قصص الخيال العلمي في اليابان، وقد ألفها فبك في سنة وفاته، حيث تجلّت عبقرية فبك الفذة ورؤيته المستقبلية لتطوّر العلوم. 

تدور القصة حول باحث في المجال الطبي يحاول تخليص البشرية من الجوع ومشاعر الخوف عن طريق اختراع قلب اصطناعي ورئة اصطناعية، بمساعدة زوجته. يعلّل ذلك في القصة، بأنّ القلب الطبيعي عندما يشعر بالخوف تصبح نبضاته أضعف أو حتى ربما يتوقف. وبهذا يعتقد فبك أنّ الخوف مستحيل مع القلب الاصطناعي ذي النبض المنتظم، على وتيرة واحدة. 

نعم، لقد كانت نظرية "فبك" خاطئة، لكنه كتب القصة قبل ما يقارب 8 سنوات من اختراع القلب الاصطناعي، بناء على معرفته العملية المتراكمة بالطب فقط.

المعلومات والمراجع شحيحة جدا عن "فبك" باللغة العربية والإنكليزية، وقد وقع كتاب وحيد له بين يدي.

ملاك خليفة
ملاك خليفة
قارئة من سلطنة عُمان، تعبّر عن نفسها بالقول "لستُ أحدًا بالذات. إنما أنا مدفوع بي إلى البحر. تلك علامة شخصيتي".