جاك لندن و"حبُّ الحياة"
يا سيدي إنْ كانت ذاكرتي ما زالت تعمل حتى الآن، بعد كلّ ما مرّ بها من أهوال الحرب السوريّة، فأقول: من أكثر من ثلاثة عقود خَلَت قرأتُ خبراً مهمّاً في صحيفة محليّة سوريّة (هل هي صحيفة تشرين؟)، جاء فيه أنّ المواطن الكنديّ الذي يعتبر الكتاب خير جليس في الزمان (ما أفصح قولك يا أبا الطيب المتنبي) ينتابه الكثير من الحزن والقلق حين يشرف على الموت ولم يُتمّ بعد قراءة ألف رواية، مش ألف كتاب، كلا، ألف رواية. وأظنّ (والله أعلم) أنّ هذا المواطن الكنديّ الفطن على حقٍّ، فأحد فوائد قراءة الروايات أنّها تُضيف إلى حياتنا حياة جديدة، لذا كلّما قرأنا أكثر طالت حياتنا أكثر، فحقّ لهذا المواطن أنْ يحزن.
أنت لا تُصدّق هذه المعادلة: كلّما قرأنا أكثر طالت أعمارنا، وتسأل كيف ذلك؟ يا سيدي، لا بدّ أن تبدأ أولاً في القراءة، جرّب ذلك، لن تخسر شيئاً، بل بالعكس أنت الرابح في النهاية، خُضْ هذه التجربة، اعتبرها سياحة في عالم الكتب والرواية، وستجد بكلّ تأكيد فرقاً واضحاً في طرق تفكيرك وستصبح حياتك أسهل وأمتع، على ما في الحياة من مثالب ومشاق ومصاعب. اسمع من شخص مُجرّب وابدأ في قراءة الروايات.
من أين تبدأ في قراءة الروايات؟ سؤال مشروع ودقيق بكلّ تأكيد، لأّن الجواب الواضح أو البديهي بأنّ ثمّة مسلّمة يقرّ بها الجميع ترى بأنّ كلّ لائحة روايات عظيمة ينبغي أن تضم كلاسيكيات الروايات العالمية. وها أنا ذا أدلك على واحدة منها.
أحد فوائد قراءة الروايات أنّها تُضيف إلى حياتنا حياة جديدة
رواية قصيرة من روايات جاك لندن تحت عنوان "حُبُّ الحياة" عمرها أزيد من مائة عام وما زالت تُطبع وتُترجم في مختلف بلدان العالم حتى اليوم. قرأتها أوّل مرة ضمن مجموعة مُترجمة عن الأدب الإنكليزي صدرت عن وزارة الثقافة السوريّة في أواخر سبعينيات القرن العشرين. وفي هذه المجموعة أيضاً قرأتُ رواية قصيرة من روايات جاك لندن تحت عنوان: "محاولة إشعال نار". الطبعة الجديدة من الرواية القصيرة "حُبُّ الحياة" قامت بها مؤسّسة هنداوي، وترجمها عبد الفتاح عبد الله.
وقد يسأل سائل: وهل هناك في الأدب ما يسمّى بالرواية القصيرة؟ وكيف تختلف عن القصّة الطويلة؟ وهل عدد الصفحات من يلعب الدور الرئيسي في تصنيف كتب الأدب الروائي؟
في الجواب أعود إلى أعظم الأدباء الروس ليو تولستوي، فعنده قصّة طويلة تجاوزت ثلاثمائة صفحة اسمها "القوزاق". ولو أعدت قراءتها اليوم ستجد بأنّها رواية، وليست قصّة طويلة، ولكن عند تولستوي هي قصّة طويلة بالنسبة لرواياته الفخمة الضخمة مثل "الحرب والسلم" و"آنا كارنينا" و"البعث". ولو أخذنا شاهداً آخر هو الأديب السوريّ ابن مدينة إدلب الخضراء في الشمال الغربي من سوريّة حسيب كيالي (زيتنا في دقيقنا) لوجدنا عنده الرواية القصيرة "حلاق الحارة" ولكنّها صُنّفت ضمن مجموعاته القصصيّة، وعُدّت قصّة طويلة، وكان من الأليق تصنيفها رواية قصيرة في هذا الباب من الأدب. وله من الروايات "مكاتيب الغرام" و"أجراس البنفسج الصغيرة".
كان جاك لندن مدافعاً شرساً عن الاشتراكية وتكوين النقابات وحقوق العمّال
في رواية جاك لندن القصيرة "حُبُّ الحياة" يخرج رجلان في رحلةٍ شاقّة بين التلال الثلجية للتنقيب عن الذهب في السهوب الكنديّة المترامية الأطراف، وفي طريق عودتهما بعد جمع الذهب، يضلّ أحدُهما الطريق، ويواصل الآخَر مَسيره، فيكابد ألواناً من العذاب والصعاب في رحلة العودة؛ من نقص الطعام وقسوة الجوع، والخوف الشديد ممّا قد يواجه، والوحدة بعد فقد الرفيق. لا تنتهي المفاجآت والمخاطر التي يواجهها الرجل في رحلة الهلاك تلك، لكنّ شعلة الحياة تظلّ موقَدة بداخله، وإن خفَت ضوءُها أحياناً وتملّكه اليأس. تُرى هل سيتمكّن من العودة والنجاة من بين تلال الثلج والبرد القارس والريح الزمهرير؟ وما مصير رفيقه؟ تتوقّع مني أن أُجيبك! كلا يا سيدي لن أفعل، عُدْ أنت إلى رواية جاك لندن "حُبُّ الحياة" وستجد الجواب.
جاك لندن مؤلِّف وصحافي وناشط اجتماعي أميركي، ولد في 12 يناير/كانون الثاني عام 1876، وهو من أوائل مؤلّفي الأدب الروائي الذين حقّقوا شُهرة عالمية وثروة لا بأس بها من كتاباتهم. عُرف عنه أنه كان مدافعاً شرساً عن الاشتراكية وتكوين النقابات وحقوق العمّال، وكتب العديد من الأعمال القوية التي تناولت هذه الموضوعات. وقد قرأ فلاديمير إليتش لينين، قائد الثورة الاشتراكية في روسيا رواية جاك لندن القصيرة "حُبُّ الحياة" وأعجب بها أيما إعجاب، وأوصى أن تُقرأ على نطاقٍ واسع لأنّ فيها تلك الروح القتالية من أجل البقاء في ظروف حياة قاسية. ولينين جرّب في الحقيقة تلك الحياة عندما كان شاباً منفياً إلى سيبيريا أيام حكم القيصر الروسي نيكولاي ألكسندروفيتش رومانوف.