توصيلة وحبة مسك
من يجمع حكايات المدينة؟ ومن يرويها؟ لكل مدينة آلاف الحكايات تروى بألف طريقة، وثمة حكايات مغفلة دوماً، يتجاهل أصحابها روايتها لأنهم يظنون أنها لا تعني أحداً، أما البعض فيمسك بزمام الحكاية، يضيف أو يلغي بعضاً من أجزائها، ينسى أو يتناسى عمداً، لكنه يتحول برضى إلى راوٍ يشيل عن المدينة تيبسها ويطعم الأحداث بمسحة إنسانية عارمة، وربما تتداخل شخصيته وأمنياته مع قصص وحكايات أهل المدينة وزوارها وشوارعها وشجرها ومحالها وقصصها الليلية والنهارية، يتلاعب الخيال بالرواة وتلبس الأنا وجه الـ"هو" وربما الـ"نحن" أو الـ"هم" وبالعكس.
لكنه يبقى الراوي الأجمل، ورغم أنه لا يوجد راوٍ وحيد لأي قصة مهما كانت صغيرة أو بلا أثر، لكن الفرادة في الرواية هي تركيز على وحدة الشخصية الراوية قبل وحدة الأحداث والحكايات، ويتحول الحراس الليليون والسائقون والباعة المتجولون إلى رواة، مرغمين أو طائعين، لكنهم يطعمون الحكاية بالألفة ويمنحون المدينة استمرارها عبر الروي، من جملة إلى جملة ومن صورة إلى سواها.
من منطقة المتحف حتى شارع الحمراء في بيروت، لم يتوقف السائق إيلي عن الكلام، كان سعيداً ومنشغلاً بتطعيم رواياته بمزيد من الخيال التشويقي، يتباهى بأنه يعرف حارات بيروت وشوارعها الرئيسية والفرعية ومداخل الأحياء وزواريبها، ويطلق الاسم دون أن أتمكن من التأكد من صحته لأني غريبة عن المدينة، وهنا تمنحه غربتي مرونة وقدرة أكبر على الاستزادة في التخيل وفي الإضافة أو الإلغاء، أو في ضخ معلومات لا تعنيني لكنها تسمح له بأن يتحول لبطل، لمؤرخ وفيّ للمدينة وأهلها وشوارعها وماضيها وحاضرها وتؤهله في حينها، أي ساعة الروي، ليظن وربما ليصدق أنه مؤرخها الوحيد والعظيم.
للمدن وجوه متعددة، يحملها أهلها بمودة رغم ثقل يومياتهم، لكن الحكايات تتلاقح رغم كل محاولات الشطب أو النسيان
كان مفتوناً بنفسه وهو يقدم خدماته للسيدات كبيرات السن، وخاصة الذاهبات إلى قداس يوم الأحد، يحتفظ بتفاصيل مشيتهن الوئيدة، شعرهن المصفف خصيصاً ليوم الأحد، طلاء الأظافر الأحمر أو الخمري، الأحذية الرسمية اللامعة والزاهية. ودعواته الملحة لاصطحابهن مجاناً في سيارته، ولو لمسافة قصيرة، وهو يقول لهن: "طلعوا ت قطعكن شوي"، بمعنى أن يجعل المسافة التي ستمشيها النساء أقل! وفور مغادرتهن سيارته كنّ يشكرنه قائلات: "سنشعل لك شمعة في الكنيسة، سنذكرك في صلواتنا يا مسيو إيلي الطيب".
ذات يوم أوصل سيدة إلى الشارع الفرعي لبيتها مع أن سائقي التاكسي سرفيس غير ملزمين إلا بعبور الشوارع الرئيسية، كانت السيدة عاجزة عن إكمال الطريق وحيدة، متعبة وعائدة من موعد مع طبيبها، والكهرباء مقطوعة، أبقاها في السيارة لعشر دقائق متواصلة لأنها عاجزة عن الوقوف، مما يعني أنه أغلق باب رزقه الذي يعتمد على عدم التوقف و"تلقيط" الركاب كما هو متعارف عليه.
وبعد قدوم الكهرباء ساعدها حتى وصلت إلى مصعد بيتها، يومها قال لها سعيداً: "تكرمي يا مدام! توصيلة وحبة مسك، وضحكا معاً". ويقول إنها يومها قالت له وبسرور وغنج بالغ: "ما شفت أهضم منك يا مسيو إيلي!". ويردف مسيو إيلي: "لا أنسى هذه القصة أبداً، لأن السيدة لبست فجأة وجهاً مشرقاً وضحكت رغم ألمها وشعورها الطاغي بالعجز والوحدة".
يتبادل السائق والنساء هنا دور صناعة الحكايات، يزعم المسيو إيلي أن السيدات يحفظن اسمه ووجهه، وبأنهن يوقفونه لتبادل التحيات ليس إلا، وربما ينتظرنه صباح كل أحد ليشاركهن رحلتهن نحو أفقهن الوحيد نحو الحياة خارج بيوتهن.
للمدن وجوه متعددة، يحملها أهلها بمودة رغم ثقل يومياتهم، لكن الحكايات تتلاقح رغم كل محاولات الشطب أو النسيان، من فم لفم ومن وجه لوجه ومن اسم لآخر، ومن صورة لصورة، يتم بناء اللوحة شبه كاملة وعامرة بالنقصان أيضاً، لكنها جاهزة للروي، للتبادل، وللنكران أيضاً.
من حق الجميع أن يعلنوا أنهم/نّ كانوا هنا وما زالوا كما أن الحكايات كانت دوماً وجه المدينة ولما تزل.
لبيروت ألف سلام وللحكايات مجد أصحابها الذين يرفضون النسيان.