تهافت التجديد الموجّه
شاع الحديث في عصرنا، وفي العصور السابقة، عن ضرورة التجديد؛ تجديد الخطاب الديني، أو الفكر الديني وغيرها من العبارات. يلفت هذا الشيوع النظر إلى تلك الدعاوى ويثير في النفس الكثير من الأسئلة، لعل أهمها هو السؤال عن مسوّغ هذا التجديد، وعن طبيعته، وعن السياقات التي دفعت إلى هذا الحال.
إنّ الدعوة إلى التجديد ليست قاصرة على دين من الأديان أو على فكرة من الأفكار، بل لعلها اجتاحت كلّ دين وفكرة. ولعل أبرز ما دعا إلى تجديد الخطاب الديني في عالمنا العربي، هو خفوت قبضة الدين في العالم الغربي، وبالتالي خفت أثره على الفكر الأخلاقي، فتم استبدال قبلة المشروعية الأخلاقية من الوحي والكهنة بقيم أخرى اختلف حولها الفلاسفة والمفكرون. ولعل علاقة الشرق بالغرب التي صار للغرب فيها القدم الأعلى في عصر الاستعمار، وما بعده أيضا، كانت دافعًا إلى وقوع العديد ممن يشتغلون بالثقافة والفكر في مأزق؛ كيف يجدون تبريرًا للخلق الشرقي في أرضية الفلسفة الغربية وفكرها. كان السعي إلى حل هذا المأزق، هو أول بادرة من بوادر التجديد، فحاول أهل الشرق أن يجدوا للقيم الغربية وشائج تجمع بينها وبين نظيرتها الشرقية، وكان ذلك يحدث أحيانًا بيسر وغالبًا بعسر؛ فيحمّل النص والإرث ما لا يحتملان.
حركة التفكير الديني وديناميته تأثرتا بشدّة بالواقع الاستعماري والحداثة
ولا يعني هذا أنّ الفكر الديني كان ثابتًا متحجرًا قبل الاستعمار الغربي، ولكن حركة التفكير الديني وديناميته تأثرتا بشدّة بالواقع الاستعماري والحداثة.
انتهى ذلك المسعى بما يمكن أن نطلق عليه "التجديد الموجه"، فكثير ممن يدعون إلى التجديد هم في الحقيقة لا يقصدون التجديد بالفعل، بل ربما إنّ التعبير الأصوب هو الإزاحة؛ فالهدف هو إزاحة الفكر الديني ليسير على طرق مهدّوها وأماكن هيأوها لينتقل إليها الفكر الديني. ليس ذلك بالتجديد حقيقةً، فالتجديد الحقيقي لا ينبغي أن تكون نتائجه حاضرة سلفًا قبل عملية التجديد، لأنه لا ينشأ من ذلك نشاط حقيقي داخل الفكر الديني، بل إنها تسلب منه نشاطه وحيويته وتجعله خاملًا سلبيًا خاوي الإرادة. وهناك مشكلة أخرى في الدعوة إلى التجديد، تكمن في أنّ نتيجته غير مضمونة كما يريد الكثير من دعاته، فقد يسير إلى نقيض ما يرومه أصحاب تلك الدعوة، إلى مذاهب أكثر "تشددًا" أو "تطرّفًا". والمشكلة الأخرى هي أنّ تلك الدعوة ليس لها صدى عند كثير من أصحاب الديانات، عامتهم وخاصتهم، لأنها في الغالب لا تنبع من داخل الدين، بل من خارجه كما أسلفنا.
إنّ إلباس الإنسانوية قناعًا دينيًا أو إلباس الدين قناعًا إنسانويًا لن تكون له أي نتائج على المدى القصير أو الطويل، بل ما هو إلا شكل من أشكال اللعب وقتل الوقت. إنّ الطريق الأصوب في رأيي، لحركاتنا الدينية، وغير الدينية، في العالم العربي، وغير العربي أيضا، هو الدعوة إلى تحديد مساحات أوسع من الحريات لتظهر فيها كلّ المذاهب على حقيقتها لتنمو وتتفاعل مع غيرها تفاعلًا حقيقيًا، وتكون عوامل فنائها أو بقائها أو تحوّرها وتغيّرها في يد مريديها ومنافسيها. قد يبدو هذا حلمًا مثاليًا، ولكنه في الواقع الطريق الوحيد للتجديد الحقيقي النشط، وليس التجديد الزائف الموّجه.