تحرر من "قيود" لجوئك
قال لي صديق يوما: "لن أبرح مكاني، مخيماتنا أصل الحكاية، وباب العودة إلى ذلك الوطن الذي يعيش فينا". لم أستغرب كلامه حينها، فهي تلك الديباجة التي حفظها كل لاجئ من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان عن ظهر قلب.
ولماذا أستغرب!، وأنا ابن الشتات، ذلك الفلسطيني المدافع عن وطنه وقضيته، الحامل -كعشرات الآلاف غيره- حق عودته على كتفيه، يحاول جاهدا خدمة مجتمعه "اللاجئ"، صحافي من أجل قضيته، وحي من أجل عودته يوما.
فانتماء الفلسطيني لفلسطينيته غريزة بشرية تخص فلسطينيي الشتات دون غيرهم، أولئلك الذين حرموا من لقاء أرضهم، وراقبوا من خلف الأسلاك الشائكة قراهم هناك في الجليل الأعلى، وهي النقطة الأقرب التي تطاولها عينك من مارون الراس عند الحدود اللبنانية جنوبا مع فلسطين المحتلة شمالا.
الأقدار شاءت ومعها الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها كل "لاجئ" فلسطيني، محروم من أبسط حقوقه في لبنان، أن أغادر، وغادرت..
غادرت أصل الحكاية، وغادرت باب العودة، ذلك المخيم الصغير الذي يعج بعشرات الآلاف ممن تربطهم صلة رحم بفلسطين، تلك الأرض التي ولد حبها عذريا في قلوبنا. لكن، غادرت..
وكمئات الشباب من أبناء المخيمات، وجهتي كانت إلى حيث أجد عملا، وأصبح حامل جنسية حقيقية – ليس لاستحيائي من فلسطينيتي فوالله، ما وجدت يوما أغلى منها لقلبي، ولمن لا يعرف، اللاجئون في مخيمات لبنان، هم فلسطينيون بجذور متأصلة في ذلك الوطن، يحملون وثيقة صادرة من لبنان، مغلفة بختم أرزته وصفة لجوئهم، أي أنهم فلسطينيون بالعرف وليس بالهوية، وجنسيتهم الوحيدة التي يملكونها، اعتراف من الأمم المتحدة بهم كلاجئين – وكانت وجهتي إلى تركيا، مدينة إسطنبول تحديدا.
ماذا لو قلنا أن ذلك الخروج من المخيم، يدعم صمودنا، ويدعم مخيماتنا، ويمكننا من تقديم ما لم نستطع تقديمه لقضيتنا ونحن نحتجز أنفسنا داخل حدود مخيماتنا المكبلة
الآن، وقد أتممت عامي الرابع في تركيا، أقول إن شيئا لم يتغير، لم تنزع عني فلسطينيتي، لم أنس أصل الحكاية، ولا تلك "الزواريب" الضيقة التي تغص بالانتماء لفلسطين.
ودون أي إنذار مسبق، يباغتني حديث مع غريب على تلك المنصات التي لمت الشمل وقربت المسافات إلكترونيا.
مفاد الحديث من ذلك الغريب -وهي أول مرة أتحدث إليه- أنه فلسطيني مثلي، يحلم بالبحث عن حياة خارج حدود المخيم هو الآخر، ضاق ذرعا من تلك المنغصات التي تجعل من أصل الحكاية "المخيم" سجنا يقيده وطموحاته.
كان سؤاله -بخجل- عن إمكانية السفر إلى خارج المخيم، وكانت كلماته كالآتي: "أنا بدي أطلع عشان أعيش، مش عشان أترك المخيم، ولا لإني تخليت عن قضيتي، أنا بس بدي أعيش، إنت فاهمني؟".
فهمتك، فهمتك جيدا أيها الغريب، ومدرك تماما لكل كلمة من كلماتك التي تغص في قلوبنا جميعا، كلنا يتصارع في داخله، مع ما يريده وما تفرضه عليه الحياة.
خروجنا من تلك المخيمات لن يعني أنها لن تعود أصل الحكاية، ولا يعني تخلي اللاجئين عن حق عودتهم، فحق العودة، هو حق مشروع لكل من أخرج قسرا من أرضه ومكفول في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان والمدرج في الفقرة الثانية المادة 13 "لكل إنسان الحق في مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده، والعودة إلى بلده متى أراد"، ضف إلى ذلك الإعلان 194 الشهير للجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي أتبعته المؤسسة الأممية عام 1974 بالقرار رقم 3236 والذي ينص على أن "حق العودة، حق غير قابل للتصرف للفلسطينيين" بالاعتماد على حق تقرير المصير.
ماذا لو قلنا أن ذلك الخروج من المخيم، يدعم صمودنا، ويدعم مخيماتنا، ويمكننا من تقديم ما لم نستطع تقديمه لقضيتنا ونحن نحتجز أنفسنا داخل حدود مخيماتنا المكبلة بقوانين تحت بند "لاجئ".
وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر الأميركية من أصول فلسطينية رشيدة طليب والتي كانت أول امرأة مسلمة تدخل الكونغرس، وتصريحاتها الداعمة للفلسطينيين وحقهم في تقرير المصير، وحقهم بحياة كريمة. لن نسرد قائمة أسماء الفلسطينيين الذين عملوا وقدموا للقضية الفلسطينية على المستوى الدولي، فالأسماء لا تحصى والقائمة تطول.
وهنا، أنا لا أنادي بحل المخيمات أو إفراغها من سكانها، بل أعيد تصويب الرأي، والتأكيد على أن مغادرة المخيم لا تعني التخلي عن حق العودة، والحصول على جنسية "أجنبية" أيضا لا يعني التخلي عن حق العودة، ولا يسقطه عنك بصفتك لاجئا فلسطينيا في الشتات.