تأملات في فلسفة المقاومة
"ابتسموا يا رفاق، نحن لسنا بخير، ولكن نسعى ما حيينا لنكون كذلك"، هذه واحدة من شعارات كثيرة خطّها الفلسطيني أحمد الطلاع على خيمته في مدينة دير البلح التي نزح إليها من مخيّم النصيرات للاجئين في وسط قطاع غزّة منذ اندلاع حرب الكيان الصهيوني على غزّة إثر هجوم السابع من أكتوبر المجيد من العام الماضي.
منذ فجر التاريخ، تقف المقاومة شامخةً كنبراسٍ في وجه الظلم والهيمنة، كنورٍ يتوهج في قلب كلّ من آمن بأنّ للروح الإنسانية الحقّ في العيش بكرامةٍ وحرية. ليست المقاومة فعلًا ماديًا مجرّدًا، بل هي فلسفة متجذّرة في عمق الروح الإنسانية، تضرب جذورها في أقدم الأساطير، وتنبض في أعظم اللحظات التاريخية، عندما انتفض الإنسان ليحمي ما يؤمن به، ما يحبّه، ما يأمله، وما يحلم به.
عندما ننظر إلى تاريخ الإنسانية، نجد أنّ أولى بوادر المقاومة قد ظهرت مع أول الصراعات بين الإنسان وقوى الطبيعة، حيث واجه الإنسان البدائي الزلازل والعواصف والأوبئة والمجاعات، وكان عليه أن يقاوم ليبقى. هذه المقاومة، رغم أنّها قد تبدو طبيعية، وضعت حجر الأساس لفلسفة المقاومة كفعلٍ يسعى لتحقيق ما يبدو مستحيلاً، لم يكن الإنسان يقاتل فقط من أجل البقاء، بل من أجل فرض إرادته وترك بصمته على هذا العالم، ومع تطوّر المجتمعات وظهور التمايز بين طبقات المجتمع، برزت المقاومة كفعلٍ موجّه ضدّ قوى القهر والاستبداد، ضدّ من يسعون لسلب الكرامة وفرض السيطرة. هكذا، انتقلت المقاومة من مواجهةِ الطبيعة إلى مواجهة الإنسان نفسه.
ليست المقاومة فعلًا ماديًا مجرّدًا، بل هي فلسفة متجذرة في عمق الروح الإنسانية، تضرب جذورها في أقدم الأساطير
إنّ فلسفة المقاومة ليست حكراً على أمّةٍ دون أخرى، وليست مجرّد ردّ فعل على الظلم، بل هي قيمٌ نبيلة تتجاوز حدود الزمان والمكان، هي تلك اللحظة التي يقف فيها الإنسان بوجه الظلم متخلّيًا عن خوفه، ومؤمنًا بأنّ الحرية تستحق التضحية. ففي فلسفة جان بول سارتر، نجد أنّ المقاومة تجسيد للإرادة الحرّة، إذ يقول سارتر: "الإنسان محكوم عليه بالحرية، لأنّه إذا رفض الظلم والقهر، فإنّ رفضه ذاته فعل حر"، ففي هذا الصراع الداخلي بين القبول والاستسلام، وبين الرفض والتمرّد، نجد بذرة المقاومة التي تمثل القدرة على انتزاع الحياة من قبضة الظلم، ولو كان ذلك بألم وتضحية وفقدان.
أما فرانز فانون، فيرى أنّ المقاومة تأخذ طابعًا أشدّ عمقاً عند المقهورين والمستعمَرين، إذ تصبح مقاومتهم صرخة حياة ونداءً للكرامة، كما يعتقد فانون أنّ تحرير الذات من الاستعباد النفسي والجسدي هو أوّل خطوة نحو استرداد الكرامة الإنسانية، وأنّ المقاومة هنا ليست مجرّد فعل فردي، بل ثورة تُعيد ترتيب المجتمع وتحرّره من قيوده. في هذا الصدد يقول ألبير كامو: "الحرية ليست شيئًا يمنح للإنسان، بل هي شيءٌ عليه انتزاعه"، في هذه الكلمات تكمن الحقيقة الجوهرية للمقاومة، فهي ليست مجرّد فعل خارجي ضدّ عدوانٍ ملموس، بل هي أعمق من ذلك، إنها حوار داخلي بين الإنسان وذاته، بين حرية الروح واستبداد القيود. فالمقاومة في أصلها حالة نفسية وروحية، تتجلّى في كلّ من قاوم القهر وانتفض ليرفع راية الكرامة، هي لحظة يقرّر فيها الإنسان، برغم الألم والمخاطر، أن يقول: لا، حين يكون قولها تذكيرًا بوجوده وبحريته، لحظة يتحدّث فيها الإنسان إلى نفسه، قائلاً: أنا أستحق أن أعيش بكرامة.
إذا عدنا بالزمن إلى حضارات الإنسانية الأولى، نجد أنّ فعل المقاومة يرتبط بالتجدّد والخصب، كما يظهر في أساطير جلجامش وأوديسيوس، ففي ملحمة جلجامش، يمثل البطل السومري رمزًا للإنسان الذي يسعى للمقاومة ليس فقط للنجاة من الفناء، بل لتحقيق معنى في حياته، فيمضي في رحلةٍ طويلة للبحث عن الخلود، ليس لرفض الموت فقط، بل لبلوغ عمق الحياة، إنها مقاومة من أجل الأمل، مقاومة من أجل الاستمرار رغم كلّ شيء. وبهذا، تُصبح فلسفة المقاومة تجسيدًا لرغبة الإنسان في أن يثبت لنفسه وللعالم أنه قادر على تجاوز المحن ليحقّق ذاته.
لا يستطيع الإنسان إدراك ذاته الحقيقية إلا عندما يقف في وجه التحديات
من أجمل تجليات فلسفة المقاومة هو البحث عن الذات عبر الصراع، إذ لا يستطيع الإنسان إدراك ذاته الحقيقية إلا عندما يقف في وجه التحديات، ويصف فريدريك نيتشه هذا المعنى بقوله: "ما لا يقتلني يجعلني أقوى"، ففي تلك المواجهة الحتمية بين الروح والقيد، بين الحلم والواقع، يولد إنسان جديد. كما أنّ المقاومة تمنح الإنسان تلك النظرة العميقة في أعماق روحه، فتخرج منه أعظم خصاله: الصبر، والشجاعة، والأمل، وتحيي فيه قوة الإرادة التي قد تكون خامدة، وكأنّ الروح الإنسانية تجد نفسها عبر التحدي، وتكتشف جوهرها الكامن الذي لم يظهر إلا تحت وطأة الألم.
في مراحل متعدّدة من التاريخ، ارتبطت فلسفة المقاومة بتلاحم المجتمعات، حين قرّر الناس أن يقفوا معًا للدفاع عن حقوقهم في مواجهة الظلم. ففي مقاومة الاحتلال والاستبداد والتمييز، تجد المجتمعات نفسها متمسّكةً بقيمها، مؤمنةً بأنّ ما يربط أفرادها ليس فقط التراب الذي يعيشون عليه، بل الحرية التي تنبض في قلوبهم. على سبيل المثال، المقاومة الفلسطينية ضدّ الكيان الصهيوني، لم تكن المقاومة مجرّد كفاح عسكري، بل كانت ظاهرة ثقافية وأخلاقية متجذّرة، إذ جمع الناس جهودهم، وباتت المقاومة رمزًا للكرامة والحرية، تجسيدًا لمجتمع يرى نفسه في تضامن أعضائه وتكاتفهم في وجه الظلم، هذه المقاومة لم تقف عند حدود السلاح، بل استمرّت في القصص والأعمال الأدبية والفنية، وأصبحت أسطورةً خالدة توضّح كيف يمكن للإنسانية أن تنتصر في مواجهة القهر.
يثور الإنسان ويرفض الظلم، ليس من أجل الحرية فحسب، بل من أجل كرامة النفس أيضًا
علاوة على ذلك، لا يمكننا الحديث عن المقاومة دون التطرّق إلى فكرة الكرامة، فالإنسان يثور ويرفض الظلم ليس من أجل الحرية فحسب، بل من أجل كرامة النفس أيضًا. فلسفة المقاومة، إذن، ليست فقط ردّ فعل على الاستعباد، بل هي إعلان إنساني يقول: "أنا أستحق الحياة بكرامة". عندما تقاوم، فأنت لا تدافع فقط عن حريتك، بل عن تلك الكرامة التي لا يمكن أن يفرضها أحد أو يسلبها آخر. وفي هذا الإطار يقول مالك بن نبي: "إن الإنسانية لا تتجلى إلا في لحظة مقاومتها للظلم". هنا، يكون فعل المقاومة تأكيدًا لأنفسنا وللعالم من حولنا بأننا لن نقبل الدونية أو الاستسلام، إنها تجسّد إيمانًا عميقًا بأنّ الكرامة الإنسانية تستحق الدفاع والتضحية، وأنّ لكلّ روح قيمتها التي لا تقدّر بثمن.
في الأخير، تبقى المقاومة فلسفةً تُمكّن الإنسان من أن يكون فاعلًا في صنع تاريخه، هي ذاك الشريان الذي ينبض في قلب الإنسان، يمنحه القدرة على تجاوز الألم والخوف، ويعيد إليه الأمل حين يخيّم اليأس. المقاومة بهذا المعنى، ليست مجرّد رفض للاستبداد، بل هي الحكمة التي تذكرنا بأنّ كلّ عاصفة تنقضي، وأنّ الروح التي تقاوم الظلم هي الروح التي تستحق أن تُحلّق حرة في سماء الإنسانية.