بين الدين والدولة: حدود أم جسور؟

02 يناير 2025
+ الخط -

إنّ السياسة في جوهرها ليست مجرّد تسوية بين قوى متصارعة أو نتيجة لإرادةٍ جماهيرية عاطفية؛ هي علمٌ معقّد يتطلّب حكمة وتفكيرًا بعيد المدى. وكلما تعمقنا في فهم السياسة كأداة لبقاء الدولة وتفوّقها، نجد أنّ أحد أهم أبعادها يتعلّق بكيفيّة التوازن بين الدين والدولة، وكيفية التفاعل بين العلمانية والإيديولوجية الدينية. هذه المسألة، التي أثارت الكثير من الجدل والتساؤلات عبر التاريخ، تظلّ أحد التحديات الجوهرية أمام الدول الحديثة التي تسعى لإعادة تعريف هويتها السياسية والوجودية. وعندما يتعلّق الأمر بالسياسة السورية، فإنّ النقاش حول العلمانية والإيديولوجية الدينية يصبح أكثر إلحاحًا، خاصّة في ظلّ البيئة الاجتماعية والسياسية المعقّدة التي تمرّ بها البلاد.

الدولة والمجتمع: ضرورة التوازن بين القيم والمصالح

إذا كان التاريخ قد علّمنا شيئًا، فهو أنّ السياسة ليست مساحة للعواطف أو ردود الفعل اللحظية. ففي كلّ لحظة من تطوّر الدولة، يظهر الصراع بين المثالية والبراغماتية، بين القيم العليا والتحديات الواقعية. لكن هل يمكن للدولة أن تحقّق التوازن بين هذه الأبعاد دون أن تسقط في فخ الهيمنة أو التفكك؟

العلمانية، رغم مبادئها التي تدعو إلى الفصل بين الدين والدولة، لا ينبغي أن تُرى بوصفها مرادفا للبرودة السياسية أو تنكّرا للقيم الدينية. بل، يجب أن تكون أداة فاعلة تعزّز حرية الفكر والعدالة، بينما في الوقت نفسه تدرك ضرورة الحفاظ على القيم الإنسانية المشتركة التي تجمع الشعوب.

لكن، كما أنّ العلمانية لا يجب أن تتحوّل إلى أداة لتهميش الهوية الثقافية والدينية للشعوب، كذلك لا ينبغي أن تتحوّل الإيديولوجية الدينية إلى وسيلةٍ لتسليع الدين لصالح السلطة السياسية. فالإسلام السياسي، على سبيل المثال، إذا تحوّل إلى أداة للهيمنة السياسية أو لتكريس فئة معينة في السلطة لفرض رؤى أحادية على المجتمع المتنوّع، يصبح مدمّراً بدلاً من كونه ركيزة لتحقيق العدالة.

الحل قد يكمن في بناء إطار فكري جديد لا يقتصر على التنافر بين العلمانية والإيديولوجية الدينية، بل يخلق مجالاً من التفاعل المتوازن بينهما، بحيث تتكامل القوى بدلاً من أن تتصادم

في هذا السياق، تبرز ضرورة تحقيق حالة من الاستقرار والطمأنينة داخل المجتمع، بعيدًا عن الحرمان والتهميش اللذين يقودان إلى المطالبة بتغيير جذري، سواء على مستوى الدولة أو على المستوى الوجودي داخلها. ولا يتحقّق هذا الهدف إلا عبر سياسات عقلانية تُعزّز الانتماء الوطني، مع احترام التعدّدية الثقافية والدينية، وتهيئة بيئة تضمن للفرد حقوقه دون أن يُجبر على التفريط في ذاته.

التوازن بين العلمانية والإيديولوجية الدينية: ضرورة وأزمة

إذن، ما الحل؟ كيف يمكن الجمع بين العلمانية التي تسعى إلى ضمان الحريات الفردية، والإيديولوجية الدينية التي تسعى لتثبيت الهوية؟

الحل قد يكمن في بناء إطار فكري جديد لا يقتصر على التنافر بين العلمانية والإيديولوجية الدينية، بل يخلق مجالاً من التفاعل المتوازن بينهما، بحيث تتكامل القوى بدلاً من أن تتصادم.

يجب أن تعي السياسة الحديثة ضرورة إيجاد هذا التفاعل المتوازن، الذي يشمل:

(1): الاعتراف بالقيم الدينية دون فرضها: يمكن للدين أن يكون مصدرًا للعدالة والأخلاق، لكنه لا يجب أن يصبح أداة لتسويق السلطة السياسية. بل ينبغي أن يُحترم الدين باعتباره جزءا من الهوية الثقافية للجماعات، دون أن يُستخدم لتوجيه السياسة بشكل قسري.

(2): الاستفادة من العلمانية لتحقيق الرفاه الاجتماعي: العلمانية، إذا فُهمت بشكل صحيح، يمكن أن تكون القوّة التي تدعم التنوّع وتضمن حرية الأديان والعقائد. السياسة يجب أن تتحرّك وفقًا لمبادئ الحريات الأساسية، بينما تظل ملتزمة بالبحث عن حلول شاملة لمشكلات المجتمع.

ينبغي أن يُحترم الدين باعتباره جزءاً من الهوية الثقافية للجماعات، دون أن يُستخدم لتوجيه السياسة بشكل قسري

(3): التكامل بين الدولة والدين في مشاريع وطنية: بدلاً من الفصل القاطع بين الدين والدولة يمكن تصوّر علاقة أكثر مرونة كالفصل الوظيفي، بحيث يمكن وضع إطار جديد يعترف بالدور الحيوي للدين في تشكيل الهوية الاجتماعية، مع ضمان استقلالية الدولة في اتخاذ القرارات السيادية. هذا الإطار يجب أن يعمل على دمج القيم الدينية في السياسات العامة، دون أن يُستغل الدين لصالح فئة أو جماعة معينة.

التحدي هنا يكمن في صياغة إطار سياسي يحترم التعددية ويضمن العدالة الاجتماعية دون أن يسمح باستغلال الهويات الفكرية لتحقيق مصالح سياسية ضيّقة.

إعادة تعريف العلاقة بين الدين والسياسة

الدين ليس أداة للسيطرة السياسية، بل هو جزء لا يتجزّأ من الهوية الثقافية للشعوب. يجب أن يُعاد تفسير العلاقة بين الدين والسياسة لتتوافق مع متطلّبات العصر الحديث. فالدين يمكن أن يُستغل كأداة لبناء مجتمع قائم على العدالة والمساواة، ولكن فقط إذا كان الهدف هو رفعة المجتمع بأسره وليس تبرير هيمنة جماعة معيّنة على الآخرين.

السياسة ليست مجرّد عملية للحفاظ على السلطة، بل هي أداة لإعادة صياغة العلاقات الاجتماعية بما يضمن تحقيق الرفاه الإنساني، ويعزّز التنوّع والعدالة الاجتماعية

في الوقت نفسه، ينبغي أن تُبنى السياسة على أسس عقلانية تُراعي المصالح الوطنية العليا، دون أن تنحاز إلى أيّ طرف ديني أو أيديولوجي. التحليل الدقيق للصراعات التاريخية والتوجّهات المجتمعية والبحث عن حلول توفّق بين تطلعات الشعب وأهداف الدولة هو الأساس لأي سياسة ناجحة تسعى لتحقيق التوازن بين القيم الأخلاقية والبراغماتية السياسية.

السياسة كأداة لإعادة تشكيل الواقع

السياسة ليست هدفًا بحدّ ذاتها، بل وسيلة لتحقيق المصلحة الوطنية. ومن خلال التوازن بين العلمانية والإيديولوجية الدينية، يمكن تصوّر نموذج سياسي جديد يتسم بالحكمة والمرونة ويعترف بضرورة التكامل بين الهويات الثقافية والدينية في سياق الدولة الحديثة ليحقّق التماسك الاجتماعي دون المساس بحرية الأفراد. لكن هذا النموذج لا يمكن أن يتحقّق من خلال الاصطفافات الحزبية أو التقسيمات المذهبية. بل يجب أن يكون مبنيًا على فهم عميق للواقع السياسي والاجتماعي، مع التركيز على إدارة التنوّع بطريقة عقلانية. السياسة هنا ليست عملية جامدة، بل هي وسيلة ديناميكية لإعادة تشكيل الواقع بما يتماشى مع احتياجات المجتمع وتحديات العصر.

خاتمة: السياسة كنموذج للعدالة والتسامح

إنّ التحدي الأكبر اليوم ليس في اختيار العلمانية أو الدين كمسار سياسي، بل في صياغة علاقة ديناميكية تضمن استقرار الدولة وتماسكها. السياسة ليست مجرّد عملية للحفاظ على السلطة، بل هي أداة لإعادة صياغة العلاقات الاجتماعية بما يضمن تحقيق الرفاه الإنساني، ويعزّز التنوّع والعدالة الاجتماعية. لذا، فإنّ الخطوة القادمة نحو المستقبل تكمن في بناء نموذج سياسي متوازن، يجمع بين المبادئ الإنسانية والبراغماتية ويحقّق التوازن بين الحريات الفردية ومتطلبات الدولة، ليكون هو المعيار الذي يُحتذى به ويضمن بقاء الدولة كمؤسسة قوية ومستدامة في عالم متغيّر.

كاتب سوري
مصطفى سركس
مهندس مدني من سورية، لديه خبرة واسعة في التحليل الأمني وإدارة المخاطر، كمل يهتم بالشأن السوري وقضايا الحرية والإصلاح.