بماذا يختلف الشعب عن الجمهور في عالم معولم؟
مشروع كل من الكاتبين، أنطونيو نيغري ومايكل هاردت، هو مشروع فلسفي وسياسي، يكشف لنا عن حقيقة أزمة واقعنا وأوضاعنا الراهنة، بل يعطينا حلولاً جذرية لتغييره. وقد تشكلت ملامح هذا المشروع بصورة واضحة، في كتاب "الإمبراطورية" الذي ركز على الشكل العالمي للسيادة، من خلال محاولة تفسير كيف ينشأ شكل جديد من النظام العالمي (ندعوه الإمبراطورية) من الدول القومية ذات السيادة، والمتمحورة حول أربعة مبادئ، هي وحدة الأراضي، وحدة اللغة والثقافة، وحدة القوة العسكرية، وحدة العملة، ثم كيف تنشأ الإمبراطورية المعولمة الجديدة، والتي تسيطر عليها وتتحكم بها الشركات الرأسمالية العالمية.
يحاجج كل من الكاتبين بأنّ النظام العالمي الجديد لم يعد فهمه ممكناً بمفردات الإمبريالية كما مارستها القوى الحديثة القائمة بشكل رئيسي على سيادة الدول القومية، حيث، وبدلاً من ذلك، نلاحظ بروز إمبراطورية العولمة التي لا تعترف بأي حدود أو قيود، أي تغيّرت من دول قومية لديها حدود واضحة إلى إمبراطورية العولمة التي لا تعترف بالحدود والقيود.
يستخدم الكاتبان مفهوم ميشل فوكو "السلطة الحيوية"، لفهم النظام العالمي الجديد، أي كيف أصبحت علاقات القوى السياسية حيوية، وامتدت إلى جميع نواحي الحياة لكى ترافق مولد الليبرالية الاقتصادية. وانطلاقاً من تحليل الأحداث الواقعية (إضرابات عام 1995، حركة العدل الاجتماعية...) كان الأمر يتعلق بالنسبة لهما بالإجابة عن السؤال الجوهري: ما هي نوعية الذاتية المعارضة التي يمكن أن توجد في هذه السيناريوهات الجديدة مما تقدمه الإمبراطورية؟
يستخدم الكاتبان للإجابة عن السؤال مفاهيم كثيرة مثل مفهوم اسبينوزا للتعددية ومفهوم مشيل فوكو حول الإنتاج الذاتي، أي أن الأمر يتعلق بجعل اختراع الذات ممارسة أخلاقية وسياسية حتى في قلب نسيج السلطة، والجمهور هو البديل الحي الذي يترعرع داخل الإمبراطورية.
مشروع الجماهير ليس بمقتصر على الرغبة في عالم تحكمه المساواة والحرية، ولا يرمي إلى مجتمع عالمي ديمقراطي منفتح وشامل فحسب، بل يوفر الوسائل لتحقيق ذلك أيضاً
يعرّف الكاتبان الجمهور بأنه مجموعة من الذوات التي تحمل اختلافات داخليّة غير قابلة للحصر على مستوى الثقافة والعرق والإثنية والجندر، وعلى مستوى التوجهات الجنسيّة ونوعيّة العمل واختلاف طرق العيش والنظرة إلى العالم واختلاف الرغبات. هي تعدديّة كلّ هذه الاختلافات، ولا يمكن حصرها في وحدة أو هويّة واحدة. الجمهور ليس هو الشعب، أي وحدة مبنية حول السلطة السيادية، ولا هو طبقة مبنية نتيجة الاستغلال الرأسمالي، ولا هو قومية مبنية إيديولوجياً من طرف السلطات ذاتها وبمواجهة ضد الأعداء والقوميات الأخرى.
هنا يمكن التمييز بين مفهوم الشعب ومفهوم الجمهور، حيث يُستخدم المفهوم السياسيّ للشعب أساساً لتمثيل ذات موحَّدة إن لم تكن متجانسة، فيما الجمهور عكس ذلك، يتألف من فروقات داخلية لا حصر لها، ولا يمكن اختزلها إلى وحدة واحدة أو إلى هواية واحدة مثلاً. ثانياً، علينا أن نميّز الجمهور عن الطبقات العاملة، أي لقد صار مفهوم الطبقة العاملة يستعمل كمفهوم حصري، ولا يقتصر على تميّز العمال عن المالكين، وإنما أيضاً لفصل الطبقة العاملة عن الآخرين الذين يعلمون أيضاً. وفي أضيق استعمال له، يوظف المفهوم، للإشارة إلى العمال الصناعيين المفصولين عن عمال الزراعة والخدمات وعمال القطاعات الأخرى. أما الجمهور فهو عكس ذلك، هو مفهوم شامل ومفتوح، يحاول أن يمسك بأهمية التحوّلات الحديثة الأخيرة في الاقتصاد العالمي.
مشروع الجماهير ليس بمقتصر على الرغبة في عالم تحكمه المساواة والحرية، ولا يرمي إلى مجتمع عالمي ديمقراطي منفتح وشامل فحسب، بل ويوفر الوسائل لتحقيق ذلك أيضا. وهناك خاصيتان للجمهور توضحان إسهامه في إمكانية الديمقراطية اليوم يمكن تسمية الأولى بالمظهر الاقتصادي، إذ لا بد أن تكشف الفروقات الداخلية للجمهور ما هو المشترك الذي يسمح له بالاتصال والعمل معا. وأما الميزة الثانية، فتتمثل في تنظيمه السياسي، ونحن نحصل هنا على أول تلميحة عن هذا الميل الديمقراطي عندما ننظر في أصل المقاومات وظواهر التمرد والثورات الحديثة التي تبرهن عن ميل نحو تنظيم ديمقراطي متزايد.
أخيراً، أنطونيو نيغري ومايكل هاردت، عالجا كلّ الموضوعات المعاصرة في مشروعهما الكبير مثل السياسات والهوية، القومية، الأصولية الدينية، ومواضيع أخرى كثيرة لا يمكن حصرها في هذا المقال.