بسيطٌ، مركبٌ، معقدٌ، إنساني
لا يستطيع الإنسان تفعيل كلّ إمكاناته الجسدية وإن بذل كلّ طاقته وسعته، فهو لا يرى كلّ ما يُرى، قريبًا كان أو بعيدًا، ولا يسمعُ كلّ ما يُلقى ويُقال، حتى ذاك الداخل في النطاق الفيزيائي لسمعه، ولا يلتذ بكلّ ذوق يتذوقه، فكثيرًا ما تمرّ على لسانه مذاقات لا يعيرها أدنى اهتمام، ولا تترك فيه شيئًا ولا أثرًا، ولا يخرج منها بكنه أو معنى.
وأَسقط كلّ ما قيل على ما يعتريه من روائح، فهو يخرج من يومه مفعم بالعرف والشذا والعطر، ومليء بروائح الأحبة والأقرباء، بخفي حنين؛ لم يهتد لمعناها، ولم يستشف مغزاها، ولم يقف عند جمالها وكمالها، كأن أنفه زائد، أو في أحسن الأحوال محل للمخاط ومساعد على التنفس لا غير. أما يداه ورجلاه فآلات يوظفها في مشاق الحياة وملذاتها، ولا يفهم من اللمس إلا ما كان مرتبطاً بشغل يومه بشكل لاواعٍ، فيلمس مئات الأشياء دون أن يخلف ذلك أثرا جماليا أو روحيا فيه، كأني باللمس في ذاته، حضر أو غاب سيان.
الإنسان هذا الجسد المهمل والمغيّب من مالك أمره وزمامه، إن بقي على حاله، يتحرك آليا لإشباع حاجاته الغرائزية، فهو لا يعدو أن يكون حيوانا مثل باقي الحيوانات العجماء، ولا فضل له على الجمادات، إلا الحياة من أجل الحياة، والعيش من أجل الإشباع والإفراغ، وانتظار انتهاء المدة المحدّدة له.
الإنسان الذي لا يتجاوز وظائف جسده وحواسه البيولوجية يشوّه حقيقة نفسه، ويغير دوره في الحياة، ويحرم الكون من سعة إمكاناته وقدراته. فالأصل هو أن نتمتع بخلقتنا، وأن نتلذذ بتلامس أصابع أيدينا، وأن نطيل الإصغاء لدقات قلوبنا، وكلام الأطفال غير المفهوم من حولنا، وأن نقف مليّا عند نظرات أحبتنا، تجاعيد وجوههم، وأن نبصرها بقلوبنا حتى تشعر بها مسامات الجلود فينا، وألا نجعل من شرب الماء حالة عادية، بل نجعلها لحظة نقدر فيها النعمة، وتُشعرنا بأهميتنا في هذا الوجود الفسيح. ولنجعل من رائحة أمهاتنا وآبائنا مصدرا نحتفي به في كلّ فرصة وآن، ولحظة لإخراجِ ما يعتصر في داخلنا إلى العلن، نتقاسم أعزّ ما نملكه مع من نساكن بالفرح والسرور تارة، وبالحزن والألم تارة أخرى، وبالتقدير والفخر تارة أخيرة.
ولنوسع من الشعور بجسدنا كلّه؛ في مشيه وركضه، في جلوسه واضطجاعه، في اتصاله وانفصاله، في يقظته ونومه، في عمله وراحته... ولنزد على هذا، فنوسع من أفكارنا حول الجسد والنفس، حول الأنَا والأنت والنحن والهم، حول الحياة والموت، حول الإنسان والمدينة والطَّبيعة، حول العدو الحق والصديق الحق، حول القول والصمت، حول الصلاح والفساد...
الإنسان هو من يجمع بين البسيط والمركب والمعقد، ولا واحد منها يحدّه
ولنجعل من الخيال الخلاق عادة يومية، تحضر أثناء تقاسم الشاي مع الإخوان في ركن من أركان المنزل أو المقهى أو تحت ظلال الأشجار، أو لحظة ارتداء الجلباب قصد الجلوس مع الزوج والأبناء، أو عند سماع قطرات المطر وهي تضرب نافذة منزلك وأنت عاكف على تحضير درسك أو عشائك. فالخيال حاضر حتى إن غاب، فالإنسان والخيال سيان، فلا الخوف ولا القلق، ولا الحزن، ولا الفرح، ولا الشَّهوة، ولا اللّذة، ولا الأمل، ولا اليأس... لها وجود إن انعدم الخيال، فهي موجودة بوجوده ومعدومة بعدمه. لذا، فالعمل الأجدى أن نوظف الخيال في ما ينفع، بتوسيع مساحات الحب والجمال والعطاء وحسن الظن في الخيال، وبالتقليل مما من شأنه التنغيص على الإنسان.
وبالتالي، فالإنسان ليس إنسانا إن كان من أصحاب "ليس باليد حيلة"، بل الإنسان من بيده الحيلة، وبإمكانه أن يحيا بإنسانية، وأن يجعل جسده وروحه محطّ رعاية واهتمام ليكون هو هو، وأن تكون حواسه مشاعره وأفكاره، وأن يقرأ فيها وعليها حياته وحياة من حوله، وألا يكون الخيال والشعر ترفا، بل ما يـميّزه، وما يعرفه، وما بهما يحيا حياة خاصة به. فالخيال والشعر منه أمر حتمي في الحياة الإنسانية، فلنعد التفكير في شأنهما.
الإنسان هو من يضفي على البساطة عمقا، وعلى العمق بساطة، ويجعل من السهل وعرًا، ومن الوعر سهلًا، وهو الذي يردّ المدنس مقدسًا، والمقدس مدنسًا، ويحوّل الأمر اليومي التافه إلى أمر جلل، وإن يردْ يعكسْ، فيصبح الجلل بقدرة قادر ضحلًا.
الإنسان هو من يجمع بين البسيط والمركب والمعقد، ولا واحد منها يحدّه، بل ما يحد الإنسان هو الإنساني، فأقواله ليست بسيطة بقدر ما هي إنسانية، وأفعاله ليست مركبة بقدر ما هي إنسانية، وحياته ليست معقدة بقدر ما هي إنسانية.
ليس الإنساني أن ننظر بعيداً، أو ننظر قريباً، بل هو أن ننظر في القرب وفي البعد وما بينهما
وليس الإنساني أن ننظر بعيدا، أو ننظر قريبا، بل هو أن ننظر في القرب وفي البعد وما بينهما، وليس بالضرورة لكي يعبّر الإنسان عن ماهيته وكنهه وحقيقته أن يوسع بإطلاق، أو يضيّق بإطلاق؛ وإنَّما يوسّع ما في توسيعه نفع للإنسانية، مكاناً كان أو زماناً، أو حسّاً، أو إدراكاً، أو خيالاً، أو شعوراً... وأنْ يعمل على تضييق كلّ ما به ضرر على الإنسان وما يرتبط به، فرداً كان أو جماعة، حالاً أو مستقبلًا، حيّا أو جامدًا، برًا أو بحرًا أو سماءً...
ولعمري، ما يشدّ الإنسان إلى أخيه الإنسان أكثر مما يفرقه، ولعل مخائل التّلاقي تلخص في هذه الكلمات: التقاسم والعطاء وصدق المشاعر. فأعز ما يملكه الإنسان هو صدق عواطفه ومشاعره، التي يترجمها في سكناته وحركاته. فما أعظم لحظات المواساة عندما تأتي يد حبيب أو قريب أو صديق أو جار أو زميل لتربت على ظهرك وكتفك، وما أروع مشهد ابن يمسح دمع أمه وهو يشهق رأفة ورحمة بها.
ولنكتفي بالقول إنّ الأخذ في عمقه عطاء، وأنّ العطاء أصلٌ في تتميم جمال هذا الوجود وكماله، فلنعط لأنفسنا قيمة، وللآخرين قيمة، ولما يجمعنا قيمة، ولنأخذ من بعضنا من أجل الزيادة في العطاء والتقاسم، ولِنتحرّ الصدق في التعبير عن مشاعرنا وما يعتمل فينا من حبّ وإيثار وإنسانيَّة.
وقَد صَدَقَ الشاعر المصري الراحل أمل دنقل عندما قال:
هل ترى؟
هي أشياء لا تُشترى.