بحثاً عن الدولة الريادية
سركان كامل
يُتوقع أن يظهر في العقود القادمة ما يمكن أن نطلق عليه الدولة الريادية، هي دولة متقدمة ذات سيادة حقيقية ونظام مالي واقتصادي جديد، وتتمتع بنظام حكم جديد ومرن، ناجم عن وضعية البلد ذاته.
وفي ما يخصّ وضع الدول القائمة الآن، ليست كلّ دولة مستقلة ومعترف بها في الأمم المتحدة هي في الواقع دولة ذات سيادة، لأنّ أيّ دولة معرّضة للإملاءات والأوامر الفوقية أو وضع خطوط حمراء تحدّ من حريتها أو أن تُمنع عنها المساعدات المالية أو العسكرية... هي حينها لن تكون دولة ذات سيادة كاملة، ومعظم دول العالم اليوم هي أشباه دول، ومنها الدول الأوروبية أيضاً! ولكن مع فارق؛ أنّ الأخيرة تداركت أحوالها، ويحاول صنّاع القرار فيها إنشاء كيان موّحد يشبه الدولة الحقيقية من خلال هيكل الاتحاد الأوروبي، على الرغم من عدم اكتمال التجربة ووقوف الشعبويين ضدها.
أما بالنسبة لجميع الدول العربية ودول الشرق الأوسط، فهي دول تفتقر إلى المقوّمات الأساسية التي تحتاجها أيّ دولة ذات سيادة بمفهومها الحقيقي، من حيث افتقارها إلى الخاصية التكاملية التي هي الرقم الأول والركن الأساسي، وأحد الأعمدة التي يتوّقف عليها كيان الدولة الحقيقية… ولضرب المثل، نقول أنّ الولايات المتحدة الأميركية تتميّز بهذه الميّزات، وتتمتع بمقومات الدولة الراسخة، ومن بعدها الصين أيضاً. فالولاياتُ المتحدة الأميركية على سبيل المثال، تمتلك مساحة جغرافية متكاملة ومترامية الأطراف، وتشمل أراضي زراعية تتميّز بتمتعها بمختلف فصول السنة من حيث المناخ وكمية الأمطار!! وبعض ولاياتها غنية بثروات مائية، وبعضها الآخر غني بثروات معدنية، ومنها ما هو غني بالنفط والغاز، ناهيك عن غناها بالثروة البشرية الضخمة، حيث يجرى مدّها ودعمها بطاقات بشرية سنوياً عن طريق الهجرات واستقطاب الكفاءات والعلماء والأغنياء والمهرة والخبراء في شتى الفنون والمهارات والعلوم، حيث تُمنَحْ الإقامات والجنسيات بكلّ مرونة، وهذا الأمر لا يمكن إنكار أهميته كوسيلة فريدة ومميّزة لإغناء طاقات البلاد وتجديدها في مجالات شتى.
باختصار، ينظر إلى كل من الصين والولايات المتحدة الأميركية على أنها قارة كاملة، ولا نستطيع مقارنتهما بدول ذات كيان ضعيف وبنيان متهالك، إذ إنّ دولنا عبارة عن كياناتٍ صغيرةٍ جداً، وغير مستقرة، ومتأخرة، وتعاني التدهور في كافة جوانبها التي من المفروض أن تدعم كيان الدولة. مثلاً، تمتلك دول الخليج ثروات نفطية هائلة إلا أنها تفتقر إلى الكوادر والثروات البشرية التي تشكل لبّ أي كيان متمكّن، وكذلك تفتقر إلى سوق داخلي حقيقي.
كما أنّ سورية أيضاً تمتلك ثروة زراعية لا بأس بها، ولكنها تفتقر إلى جوانب أخرى لدعم كينونتها كدولة. وأما مصر، فتمتلك ثروة بشرية هائلة ولكن تفتقد إلى كلّ المقومات الأخرى التي لا يمكن الاستغناء عنها لتوطيد دعائم الدولة الحقيقية المنشودة.
دولنا عبارة عن كياناتٍ صغيرةٍ جدا، وغير مستقرة، ومتأخرة، وتعاني التدهور في كافة جوانبها
فهذه الدول لن تستطيع أن تصل إلى التكاملية والريادة، وإن اقتربت من القمة، لوجود لتلك النواقص التي تعاني منها. ولهذا، فإنها تعدّ دولاً هشّة قابلة للمحو والذهاب، إن لم تُدعم بقوى أكبر منها، ولن يمتد بها البقاء بدون حماية، وبدون دفع أتاوة للدول العظمى بسبب نقص تلك الحالة التكاملية لديها.
بل حتى دولة احتلال مثل إسرائيل، وبكلّ كينونتها التي تبدو صلبة وقوية من الخارج، فإنّ هذا الحكم يجري عليها أيضاً، لأنها دولة هشة، على الرغم من تقدّمها النسبي وتمتّع نظامها السياسي بالحرية والشفافية النسبية. هي تبقى في نهاية المطاف دولة معتمدة على أميركا كلياً، ويوم انهيار الأخيرة لن تستطيع البقاء من دون الاحتماء بدولة عظمى أخرى تستند إليها.
خلاصة الأمر، لن تصبح هذه الدول دولاً حقيقية من دون انصهارها في كيان واحد بشكل من الأشكال أو إنشاء صيغة جديدة بمصطلح جديد أقرب إلى مفهوم الكونفيدرالية، مع الانتباه إلى أنّ أيّ بناء جديد لا يستقيم له الحال، ولا ينفع معه الإصلاح إذا كان في الأساس مبنياً على الخطأ، فما بدأ في الخطأ سينتهي إلى الخطأ والفشل.
ولهذا، تدفعنا التجارب التاريخية وطول ممارسة الخطأ والصواب إلى إدراك أنه يجب العمل على إنشاء نظام جديد برمته، نظام لا يمت إلى ما هو موجود بصلة. وهنا لا يفيد تغيير الأنظمة أو الإتيان بالمعارضة إلى سدّة الحكم، لأن الأخيرة ليست الحل، وإنما استبدال مشكلة بأخرى، حيث يجب على أي حاكم أن يتخلّى عن الموجود ويأتي بالجديد، ومن ثم التحدّث عن التنفيذ وتطبيق المطلوب بشكل صحيح، وكيف من الممكن أن تلعب الحكومة دورها المفروض والواجب عليها من دون تهاون وتقصير مع تجنّب كلّ احتمالات استشراء الفساد.