انهيار التحالف الحاكم في ألمانيا
تُعتبر ألمانيا القلب السياسي والاقتصادي في الاتحاد الأوروبي، وهي اليوم تواجه أزمةً سياسيّةً غير مسبوقة على خلفية انهيار التحالف الحاكم المكوّن من الحزب الديمقراطي الاشتراكي، حزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر. هذا التحالف، الذي سيطر على الحياة السياسية الألمانية في السنوات الماضية لم يعد قادرًا على تقديم حلول فعّالة للأزمات المتراكمة، مما أدّى إلى تراجع شعبيته بشكلٍ ملحوظ. ففي وقت كان يعوّل الألمان على استقرار حكومي، أصبحت الأزمة السياسية تعكس التوترات بين الأحزاب التقليدية وتحديات الثقة الشعبية.
حجب الثقة عن أولاف شولتز وتصاعد الأزمة
في خطوةٍ متوقّعة، أقدم البرلمان الألماني الاتحادي يوم السادس عشر من ديسمبر/كانون الأوّل 2024 على حجب الثقة عن المستشار أولاف شولتز، الأمر الذي يعدّ دلالة قوية على فقدان الثقة في سياساته على الصعيدين المحلي والدولي.
هذه الأزمة قد تؤثّر بشكلٍ حاد على استقرار الحكومة الائتلافية، ويأتي هذا القرار بعد سلسلةٍ من الأزمات الداخلية التي عصفت بالحكومة، بدايةً من تدهور الأداء الاقتصادي إلى ردات الفعل السلبية تجاه السياسة الخارجية.
حجب الثقة المفقودة ليس فقط في شخص المستشار، بل في قدرة التحالف الحاكم على تقديم حلول لمشاكل المواطن الألماني، في وقتٍ يشهد البلد العديد من التحوّلات الجذرية.
أسباب فقدان الثقة في الأحزاب التقليدية
الأحزاب التقليدية في ألمانيا، التي كانت تُعدّ ركيزة الديمقراطية الألمانية، أصبحت في وضعٍ صعب بسبب تباين سياساتها وعدم قدرتها على تلبية تطلُّعات المواطنين، فقد اعتاد الألمان على الاستقرار السياسي لعقود، لكن الانعطافات الكبرى التي حدثت في السنوات الأخيرة، سواء داخل الأحزاب نفسها أو في التوجّهات الشعبية، أدّت إلى تراجع هذه الثقة.
فقد كان الحزب الديمقراطي الاشتراكي تاريخيًا، يمثّل الرافد الأساسي للطبقة العاملة، لكن مع تبني سياسة الإصلاحات الاقتصادية تحت قيادة المستشار الأسبق كيهارد شرودر وأفكاره النيوليبرالية، فقد الحزب صلته بالجماهير العمالية وتحوّل إلى حزب يتماشى أكثر مع توجّهات الطبقات البرجوازية والاقتصاد السوقي. هذه السياسات أحدثت تباينًا داخليًا في الحزب، مما جعله يخسر قاعدة واسعة من مؤيديه.
الأحزاب التقليدية في ألمانيا، التي كانت تعدّ ركيزة الديمقراطية الألمانية، أصبحت في وضع صعب بسبب تباين سياساتها وعدم قدرتها على تلبية تطلُّعات المواطنين
حزب الخضر: الحزب الذي كان في البداية مناصرًا للسياسات البيئية والتنمية المستدامة، شهد تحولًا جذريًا في مواقفه ليصبح داعمًا قويًا للسياسات الحربية. هذا التغيّر في توجّهات الحزب كان له تأثير سلبي على مؤيديه التقليديين الذين كانوا يدافعون عن السلام والبيئة.
تحوّل الحزب إلى مساند للحروب، خاصة في الأزمة الأوكرانية، ومنذ أن بدأت حرب غزّة أصبح الداعم الأساسي مع أميركا لإسرائيل في إبادته لقطاع غزّة، ما دفع العديد من الناخبين للبحث عن بدائل.
الحزب الديمقراطي الحرّ: رغم وجوده الفعّال في التحالف الحاكم، فإنّ الحزب شهد تراجعًا في شعبيته بعد إقالة كريستيان ليندنر من منصبه وزيراً للمالية، وهو ما يعكس الانقسامات العميقة داخل الحكومة. وهذه الأزمة دفعت الحزب إلى إعادة تقييم استراتيجيته السياسية وحجم تأثيره داخل التحالف الحاكم.
انعكاسات انهيار التحالف الحاكم
بعد انهيار التحالف، شهدت ألمانيا حالة من الضبابية السياسية، حيث أصبح من الصعب تشكيل حكومة مستقرّة في المستقبل القريب، على الرغم من الجهود المستمرّة من قبل المستشار أولاف شولتز لاستعادة توازن التحالف، إلّا أنّ أزمة الثقة كانت قد بلغت ذروتها مع قرار البرلمان بحجب الثقة عنه في السادس عشر من ديسمبر/ كانون الأوّل. هذا القرار جعل من المستحيل على الحكومة الحالية المضي قدما في تنفيذ أجندتها السياسية.
صعود حزب البديل من أجل ألمانيا
في خضم هذه الأزمة، كان من المتوقّع أن يجد حزب البديل من أجل ألمانيا فرصة ذهبية لتعزيز موقعه في الساحة السياسية. الحزب اليميني المتطرّف استطاع جذب قطاعات واسعة من الناخبين الذين فقدوا الثقة في الأحزاب التقليدية، مما ساعده على تقوية موقفه كإحدى القوى المعارضة الفاعلة في البرلمان. ورغم ذلك، يظلّ الحزب محاصرًا بسبب رفض الأحزاب الأخرى التعاون معه، ما يقيّد قدرته على تشكيل أيّ حكومة ائتلافية.
دور حزب سارا فاجينكنيشت في المشهد السياسي الألماني الجديد
في الوقت الذي تتصاعد فيه حدّة الانقسامات السياسية، يبرز حزب سارا فاجينكنيشت كأحد البدائل الجديدة في الساحة السياسية.
تزايدت معدلات البطالة والضغوط الاقتصادية على الطبقات الأقل دخلا
تأسّس الحزب بعدما انفصلت فاجينكنيشت عن حزب اليسار بسبب الخلافات الداخلية حول السياسة التي يجب أن يتبعها الحزب. الحزب الجديد لا يزال في مرحلة التكوين، ويعبّر عن وجهات نظر متباينة مع الأحزاب التقليدية، ويعمل على استقطاب الفئات المتضرّرة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية، لكن نجاحه المستقبلي يتوقّف على قدرته في بناء رؤية سياسية شاملة قادرة على جذب شريحة واسعة من الناخبين.
انعكاسات الحرب في أوكرانيا على السياسة الألمانية
لعبت الحرب في أوكرانيا دورًا كبيرًا في إعادة تشكيل السياسة الألمانية، بينما دعمت الحكومة الألمانية أوكرانيا، خاصّة في ما يتعلّق بالمساعدات العسكرية، فإنّ هذه السياسات لاقت انتقاداتٍ شديدة من قطاعات واسعة من الشعب الألماني التي رأت أنّ هذه المساعدات تأتي على حساب الاقتصاد المحلي.
هذا التوجّه دفع الكثير من الألمان للتساؤل عن أولويات حكومتهم، مما يعزّز مكانة القوى السياسية التي تتبنى مواقف أكثر تحفظًا تجاه التدخلات العسكرية في الخارج.
الأزمة الاقتصادية وتأثيرها على الساحة السياسية
الأزمة الاقتصادية في ألمانيا، بسبب التضخّم وارتفاع أسعار الطاقة، أسهمت في تزايد حالة الاستياء بين المواطنين، وأظهرت أنّ الحكومة الحالية غير قادرة على تقديم حلول جذرية للمشاكل الاقتصادية التي يعاني منها المواطن العادي، إضافة إلى ذلك، تزايدت معدلات البطالة والضغوط الاقتصادية على الطبقات الأقل دخلًا، مما فتح المجال للأحزاب المعارضة لانتقاد الحكومة على فشلها في حلّ الأزمات الاقتصادية.
دور اليسار في السياسة الألمانية
الحزب اليساري يعاني من أزمة داخلية عميقة، فهو في تراجع مستمر بسبب انقسامات داخلية وصراعات حول قيادة الحزب، مما جعله يفقد مكانته كحزب ممثّل للقضايا الاجتماعية والعُمّالية، فقد تراجعت تأثيراته في البرلمان وأصبح دوره أقل أهمية في المشهد السياسي، وهو ما يجعل الحزب في حاجة إلى إعادة هيكلة وتحديد أولوياته المستقبلية.
الآفاق المستقبلية
من المتوقّع أن تستمر الأحزاب التقليدية في السعي نحو تشكيل حكومات ائتلافية، لكنّ هذه الحكومات ستكون أكثر هشاشة في ظلّ انعدام الثقة بين الأحزاب، لذلك ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية، تبقى الحكومة الألمانية أمام تحديات كبيرة تتطلّب حلولًا سياسية مبتكرة.
الوضع السياسي في ألمانيا يواجه عقبات جسيمة نتيجة لفقدان الثقة في الأحزاب التقليدية، وتزايد قوّة الأحزاب الجديدة، وفي الوقت نفسه، يحتاج شولتز إلى إيجاد حلول سريعة للحدّ من تدهور الحكومة، فعلى ما يبدو فإنّ ألمانيا على عتبة مرحلة جديدة من التغيّرات السياسية العميقة التي ستحدّد شكل الحكومة القادمة وكيفية التعامل مع الأزمات المتراكمة.
جميع الأحزاب الألمانية، على مدى تاريخها، لم تتفق على نقطةٍ واحدة كما اتفقت على دعم إسرائيل غير المشروط في حربها الدموية الشرسة على غزّة
في ضوء ذلك، يشير الوضع الراهن في ألمانيا إلى ضرورة إيجاد حلول سياسية جذرية ومستدامة في ظلّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وإذا لم تنجح القوى السياسية في بناء ثقة مع الشعب، فإنّ البلاد قد تشهد تغيرات سياسية غير متوقّعة في المستقبل القريب.
ولكن، رغم الاختلافات السياسية والاقتصادية العميقة بين الأحزاب، فإنّ جميع الأحزاب الألمانية، على مدى تاريخها، لم تتفق على نقطةٍ واحدة كما اتفقت على دعم إسرائيل غير المشروط في حربها الدموية الشرسة على غزّة.
يعتبر هذا الدعم غير المشروط في سياق الحرب الحالية مثيرًا للجدل، خاصّة في ظلّ الانتقادات الواسعة حول الفظائع التي يحدثها الجيش الإسرائيلي في غزّة والتأثيرات الإنسانية المدمّرة على المدنيين.
وبالنسبة للكثيرين، يظهر الموقف الألماني غير متوازن ومتجاهلًا للمعاناة الفلسطينية، مما يثير تساؤلات حول أولويات السياسة الألمانية في هذا السياق.