الهروب إلى حيثُ تُنسى حُدود الأمم
ثمّة طريقة حياة تتحكّم فيها قوى أخرى غير مرئية كالأشباح، تُوجِّه العالم. وهي طريقة حياة الأغلبية منّا: عيشٌ مُنهك، مسكون بالقلق والهواجس، بالمشاكل والعقبات، بالتبطّل أو العمل المداوم الذي لا يترك لنا فرصة لنسترجع أنفاسنا، بالمسؤوليات الجسام التي تضغط على أكتافنا، القلق والأرق اللذان يهزّان راحتنا في سرير اخترناه بدقة لأسبابٍ الراحة ذاتها دون جدوى، حصار الواقع المحبط الذي يحيط بنا كحرّاس السِّجن، أخبارُ أرقامٍ من دم بلا أسماء تدعسها آلة الحرب الجهنميّة كلّ يوم. بسبب ذلك كلّه ينتفض في داخلي دافعُ الرّغبةِ إلى النِّسيان؛ فأحلم في يأسي بشيء كهذا: دهليزٌ سريٌّ للهروب.
وليس هناك في الحقيقة أيّ دهليز سرّي حفرته السّواعد في جدران مموّهة يفضي إلى الخلاص سوى ما أقترحه على نفسي: أن أحزم فردتي حذائي وأنطلق إلى حيث يسود بعض السّكون. إلى حيث تنتظرني نسختي الحقيقيّة في منزلي الحقيقيّ في الهواء الطّلق بين الأشجار، وتحديداً في الغابة.
هناك فقط يستطيع المرء أن يلغي العالم بما فيه من أخبار وحروب وهموم شخصية وجماعية ويجد حريته الضائعة. يقول أنوس إيه ميلز: "ادخل إلى الغابة وستنسى حدود الأمم". فما إن أضع قدميّ فِعليّاً في هذا الفضاء الطبيعي الألوهي حتى يتلاشى الضّجيج من حولي، وتشملني السّكينة. ثم ها أنّي أستردّ أنفاسي في عالم الهدوء خارج محيط الأفكار المُتلاطم الذي كان يضغط على صدري ويدفعني إلى الغثيان من شدّة دوار الحياة السّريعة بحوائطها الإسمنتية ومشاهدها اليومية التي تسطح العقل.
تبسط لك الغابة فعلا هِبة نسيان عالمك الضيّق. وتنعشُ فيك بالمقابل ذاكرة أصيلة تعود إلى ملايين السّنين حيث كان جنسنا البشريّ على توافق تامٍّ مع الطّبيعة
تبسط لك الغابة فعلًا هِبة نسيان عالمك الضيّق. وتنعشُ فيك بالمقابل ذاكرة أصيلة تعود إلى ملايين السّنين حيث كان جنسنا البشريّ على توافق تامٍّ مع الطّبيعة، ما يجعل الحياة في المدينة على نقيض ما ألفته أدمغتنا طوال كلّ ذلك التاريخ الهادئ الطويل والمُنساب مع دورات الفصول المداومة خارج ضغط الزّمن الذي اخترعته العصور الحديثة لتسريع الاستهلاك وتضخيم اقتصاد الدول.
بفضل الغابة تتعرّف إلى نفسك من جديد. تلتقي بذاتك الحقيقية التي باتِّساع الكون بعد أن حوّلتها حياتنا المعاصرة للأسف الشّديد إلى رقم بهذا الحجم البائس: راتب صغير في الجيب، ورتبة في سُلّم وظيفي تنهكه الفواتير المتراكمة آخر الشّهر.
تقول لك الغابة: "أنا مَنزلتُك الحقيقيّة وراحتك، أنا خلاصك". وما إن تلج هذا العالم اللّطيف الظّليل حتى تقف الأشجار أمامك منتصبة كأحد معارفك القدامى.
مقابل المعاناة الصحيّة والعقلية التي تُسبِّبُها المدن، بوسع الغابة أن تهبك التوازن
فِنلندا رسميّاً أسعد بلد في العالم. يرى الكاتب، مات هيج، أنّ هذه الحقيقة لا بدّ أنها مرتبطة بحقيقة أخرى تتمثّل بأنّ مساحة البلد عبارة عن 75 في المائة من الغابات. شخصيّاً، أعتقدُ في صحّة هذا الكلام؛ فثمّة عدد هائل من الدِّراسات أشارت إلى أهمية فضاء الغابة في إعادة التأهيل النّفسي والبدني وخلق الارتياح والسّعادة. فمقابل المعاناة الصحيّة والعقلية التي تُسبِّبُها المدن، بوسع الغابة أن تهبك التوازن. إنّها نعمة عظيمة للتّشافي.
يقول أحد الأبحاث: "إنّ مجرّد رؤية الأشجار يجعل ضغط الدّم ينخفض بشكل سريع. وعلى مدار عشرين عامًا توصّل باحثون روّاد إلى اكتشافاتٍ مذهلة أثبتت أيضًا أنّ قضاء وقت في الطبيعة أو حتى النّظر إليها يحفّز مناعتنا الطبيعيّة ويساعد على التخفّف من التّعب النّفسي. إنّ لَمس أو عناق شجرة يحفّزها على إطلاق الموّاد العلاجيّة التي يحتاجها الجسم. ثم إنّ المبيدات العطريّة تعزّزُ الخلايا القاتلة الطبيعيّة فينا، تلك المسؤولة عن قتل الخلايا السّرطانية. فإذا داوم الشخص على الغابة لمدة ثلاثة أيام وليلتين، فإنّ عدد الخلايا القاتلة يزداد بنسبة 25 في المائة.
تساعد الغابة على تنظيم المؤشرات الفيزيولوجيّة المتعلّقة بالاسترخاء والهواء. ويمكننا ملاحظة ذلك في النّشاط الدِّماغي الذي ينخفض كثيراً مقابل نشاطه المتزايد الذي يسبّبه العيش في المدن. كذلك تزداد الأنشطة نظيرة الودية للجهاز العصبي الذاتي بنسبة 50 في المائة مقارنة بالمدينة. أما مستويات الكورتيزول التي تفرز عند الإجهاد فتنخفض بنسبة 12%.
ليست الغابة شعلة عمودية من أشجار عالية وبعض الظلال والهواء النّقي فحسب، بل هي أكثر من ذلك؛ إنها مشفى للتّعافي والتّشافي من أمراض الجسم والنّفس والطاقات السّلبيّة. إنها المنزل الأول للرُّوح حيث يُلغى العالم، تنبسط السّعادة، وتُنسى حدود الأمم.