النساء والتدخين
يبلغ عدد المدخنين الرجال مليار رجل، بينما يبلغ عدد النساء المدخنات عبر العالم مائتي مليون امرأة، أي هناك رجل مدخن من بين كلّ ثلاثة رجال، وامرأة مدخنة من بين كلّ ست عشرة امرأة، وإن تساوت تلك النسبة في ما يخصّ الرجال المدخنين في كافة دول العالم، تبقى النسبة متباينة بشدّة في ما يخص عدد النساء المدخنات. وإذا اعتمدنا الجغرافيا للقياس والإحصاء، فتتغير النسبة بشكل كبير ما بين نسبة النساء المدخنات والنساء غير المدخنات، ونسبة إلى الرجال في الكثير من البلدان، وربما القارات.
ثمّة ظاهرة تستدعي الانتباه دوماً، فما يبدو للعلن، وخاصة في ما يتعلّق بالنساء المدخنات، هو أقل بكثير من الحقيقة، وإن كانت نسبة النساء المدخنات تبلغ خُمس عدد الرجال المدخنين، فإنّ نسبة النساء المدخنات علناً، وخاصة في الشوارع والفضاء العام، أقل بكثير من الواقع الفعلي، وللأسف لم يقم أحد من قبل بإحصاء رقم المدخنات علناً من قبل.
تدخن أميمة منذ أربعين عاماً، هي تبلغ الستين من عمرها اليوم، لكنها وبعد كلّ هذا الوقت الطويل تمسك السيجارة ورأسها المشتعل مخبّأ في كفها في حركة ثبتها الحذر، وربما الخجل أو الخوف من الوصمة أو العقوبة أو الاتهام التسلسلي الذي قد يلي الاتهام بالتدخين كفعل شائن للنساء، والأهم هو التردّد الذي تلجأ إليه النساء للتعامل بصورة علنية مع سجائرهن.
على حافة الرصيف في حي معروف بسوقه الكبير تجلس راغدة وابنتها على دكة حجرية منزوية، تبتعدان عن الأعين بقرار حاسم منهما، بعدما اشترتا علبتي شراب الكولا. تقول البنت وأمها: "نشف حلقنا، ونخجل من التدخين ونحن نمشي في الشارع، عطشنا وبلغت الحاجة للنيكوتين أشدّها". كان لا بدّ من العزلة إذن، تلبية لنداء السيجارة، الجميع يعرف أنهما تدخنان، في البيت وفي العمل، لكن للشارع موانع صارمة لم تعمد المرأتان إلى تجاوزها مطلقاً، إلى درجة أنهما وباللاوعي ستبتلعان أنفاسهما بسرعة وتخفيان السيجارة في الكف في حال مرور رجل بالصدفة البحتة من قربهما.
نسبة النساء المدخنات علناً، وخاصة في الشوارع والفضاء العام أقل بكثير من الواقع الفعلي
نساء قليلات جداً في مدينة دمشق يُشرعن سجائرهن ويُدخنّ في العلن. أما في بيروت، فثمّة مشهد آخر وصورة مختلفة بشكل كبير على الرغم من المسافة القليلة الفاصلة بين المدينتين. ويُحكى أيضاً أنّ النساء في الجزيرة السورية كنّ سابقا يُدخنّ علناً، وفي جيوبهن ولاعة أبو حبل التي تقدح شرراً بعد فتل مسنناتها. ويبدو أنه للاتساع المترامي، وللعلاقة مع المدى المفتوح للطبيعة المختلفة، دور ما في تقبّل صورة نساء يتوقفن في منتصف السوق أو في منتصف أعمالهن الزراعية المختلطة ليشعلن سجائرهن وينفخن هبابها علناً، وثمّة صورة أخرى تتناقلها الألسن، وهي للنساء في بعض قرى القلمون، وهنّ جالسات بعد العصر على الدكة الحجرية لبيوتهن يشربن المتة ويدخنّ السجائر علنا أيضا.
القضية هنا لا تتعلّق بالمشهد العام فقط، ولا بالانطباع اللحظي المباشر لرؤية امرأة تدخن علنا وهي سائرة، بل بالصورة القيمية التي تتبع فعل مشاهدة امرأة تدخن علنا، إلى درجة أنهم يُتبعون فعلها بتوصيف خاص "مثل الرجال"، أي أنه من الطبيعي أن تدخن النساء مثل الرجال، ولكن الفارق هنا هو في العلنية، فما يميّز الرجال هنا هو الحق في العلنية، الجرأة في إشهار التدخين وممارسته ببداهة طبيعية جدا.
تسأل إحدى النساء العابرات عن إمكانية الدخول إلى مدخل بناء على الشارع، تجتازه بسرعة ثم تختار زاوية شبه مخفية، لتجلس القرفصاء وتشعل سيجارتها وتسرح في عالم يفصلها، زمانياً ومكانياً، عن الشارع الذي هربت منه فقط لتدخن سيجارة وتمضي بعدها.
كلّ النسب المئوية والدراسات الإحصائية ستتناسى عمداً الإشارة إلى النسبة المتباينة بشدّة ما بين التدخين علناً أو سرّاً، علماً أنّ المهم الرقم وليس الحق في الإعلان.