المقهى والأدب.. بين القاهرة وإسطنبول
إنّ كتاب "القهوة والأدب" لجيرار جورج لومير، الصادر بترجمته العربية عن دار الرافدين، هو رحلة مثيرة وممتعة بين المقاهي من القرن العاشر إلى القرن العشرين، ومن الشرق إلى الغرب على لسان أدباء ورحالة.
هي إذن رحلة القهوة والمقهى بين عوالم مختلفة، عوالم النشأة بين التحليل والتحريم، بين المدح والذم، بين الفقهاء والمتصوّفة والحكام، بين العامة والخاصة، بين الشرق والغرب، بين اليمن ومكة وإسطنبول والقاهرة وباريس، بين ممارسة شعبية عفوية بسيطة وطقس كامل الشروط، بين الشعر والحكاية، والموعظة والنكتة، بين حديث الهموم اليومية للأفراد وحوارات السياسة والثقافة.
كتب الكثيرون عن هذا التاريخ المتقلّب، عن العلاقات الإنسانية بين مرتاديها، عن علاقتها بالموسيقى والأدب والثقافة حدَّ تسميتها في مرحلة معينة "مدارس المثقفين أو مدارس المعرفة" (كما ورد في الكتاب)، عن أماكن ازدهارها بين القاهرة والإسكندرية، وإسطنبول وباريس.
في القاهرة مثلاً، الرحلة الأبرز كانت مع نجيب محفوظ، المحدّث الأكبر عن المقاهي، والتي هي مركز المكان في رواياته وفي حياته، حيث المقاهي جزء منه ومن تاريخه. من مقهى الفيشاوي إلى ريش مرورِاً بمقاهي زقاق المدق، عبدو، عرابي، أبي الهول وغيرها. إنها أمكنة حيّة، لا تفلت من خيالك وأنت تقرأ عنها، حدَّ أن تجد نفسك داخلها تتأمل روادها وتُحادثهم مستعيداً كلّ شيء.
وليس بعيداً عن القاهرة، يأخذك الكتاب إلى الإسكندرية، المدينة الكوسموبوليتية في ستينيات القرن الماضي، والتي تجمع خليطاً ثرياً من العرب والأرمن واليهود واليونانيين. في الإسكندرية وداخل مقاهي "سيدي بشر" و"باسترودي" في شارع فؤاد، و"دليس" و"سان ستيفان، وغيرها. هنا في هذه الأمكنة تلتقي نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، والشاعرين اليونانيين غوسيب إنغاريتي وقسطنطين كفافي والروائي البريطاني لورنس داريل كاتب "رباعية الإسكندرية"، والكاتب الفرنسي جون كوكتو. هناك ستستمع إلى ما أنشدوا من أشعار ومقاطع من روايات كُتبت لتبقى.
تاريخ المقاهي تاريخ أمكنة ومدن وثقافات، هو أيضاً تاريخ كتُب وكتَّاب، حيث كتبت العديد من الكتب، منها "عمدة الصفوة في حل القهوة" لزين الدين بن عبد القادر الجزيري الحنبلي، و"تحفة إخوان الزمن في حكم قهوة اليمن" للسيد مرتضى الزبيدي، و"السر المكنون في مدح البن" لابن علوان، و"رسالة في الشاي والقهوة والدخان" للشيخ جمال الدين القاسمي المتوفى سنة 1332.
تاريخ المقاهي تاريخ أمكنة ومدن وثقافات، هو أيضاً تاريخ كتُب وكتَّاب
وهناك أيضا من الكتّاب غوستاف فلوبير، جيرار دي نيرفال، فرانسوا دو شاتوبريان وكتابه "من باريس إلى القدس" الصادر سنة 1811، أيضاً بيار لوتي عاشق إسطنبول، وهو ضابط بحرية فرنسي، كتب عن مقهى متواضع في إسطنبول يقع في حي أيوب فوق مقبرة، حيث كان بإمكانه من هناك أن يتأمل الضفاف الساحرة لقرن العاج، الآن يسمى القرن الذهبي، حيث جرت العادة أن يلتقي فيها الزبائن لارتشاف القهوة والاستماع إلى تراتيل الحكواتي. وهذا المقهى أصبح اليوم أحد مزارات السيّاح في إسطنبول، وهو كان ملهماً حقاً.
وفي زيارتي الأولى إلى إسطنبول، وعلى إحدى طاولاته المطلّة على القرن الذهبي، كتبتُ نص "روائح إسطنبول":
(1)
فِي تَلَّتِهِ،
مِنْ بَيْنِ الأَنْقَاضِ،
أَنْقَاضِ المَوْتَى فِي مَقْبَرَةِ اسْطَنْبُول
وُلِدَتْ أحْلامُ "بيار لوتي" مِنْ أَبَوَينِ تُرْكِيَيْنِ:
البَحْرُ عِنْدَ خَلِيجِ القَرْنِ الذَّهَبِيِّ
وَالأَرْضُ المَكْسُوَّةُ بِرِدَاءِ الخُضْرَةِ وَالأَشْجَار.
(2)
مِنَ الجَامِعِ الأَزْرَقِ إِلَى القَصْرِ السُّلْطَانِيِّ
أَتَذَكَّرُهُمْ جَمِيعًا.
البُنَاةُ المَقْبُورُونَ بَيْنَ الأَحْجَارِ،
الإنكِشَارِيونَ: أَطفَالُ الضَّواحي المَغْسُولَةِ أَدْمِغَتُهُمْ
وَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ طُقُوسَ الطَّاعَةِ وَالحَرْبِ،
محمد الآغا: مِعْمَارِيُّ الجَامِعِ مُرْتَعِدًا...
(أَخِيرًا أَسْعَفَتْهُ اللُّغَةُ لِيَحْيَا سَنَوَاتٍ أُخْرَى وَيَمُوتَ مَنْفِيًّا)
مِصْرُ وَهِيَ تَقتفي أَثَرَهَا قِطْعَةً قِطْعَةً،
يَلْتَقِطهُ العُثْمَانِيُونَ ثَمَرَةً نَاضِجَةً للبَيْعِ فِي اسْطَنْبُول.
(3)
الكَتَّابُ وَالشُّعَرَاءُ،
السِّيَاسِيونَ،
أَصْحَابُ الرَأْيِ،
....
فِي حَضْرَةِ السُّلْطَانِ
تُفْقَأُ أَحْلَامُهُم وَيُنْفَوْنَ فُرَادَى إِلَى جُزُرٍ مُقْفَرَةٍ.
طَقْسٌ تُرِكِيٌ قَدِيمٌ، وَرِثَتْهُ أَمَاكِنُ أُخْرَى.
(4)
الحَافِلَةُ الصَّغِيرَةُ بِلَوْنِهَا البَاهِتِ،
ضَجِيجُ حَدِيدِهَا الذِي لاَ يَنْقَطِعُ،
الأَنْهُجُ الضَّيقَةُ بَيْنَ مَبَانٍ مُتَعَثِّرَةٍ،
الطَّرِيقُ المُشْبَعَةُ بِالحُفَرِ وَ النُتُوءَاتِ،
نُدُبٌ صَغِيرَةٌ عَلَى بَشَرَةٍ بَيْضَاءَ.
الوَجْهُ الآخَرُ لإسْطَنْبُول مَخْفِيُّ بِعِنَايَةٍ فَائِقَةٍ.
رحلة القهوة والمقهى في هذا الكتاب حياة كائن حي عاش كلّ التقلبات من أجل أن يشتد عوده، بدأ كائناً غريباً في البلاد العربية، ثم تأنسن في إسطنبول، ليذهب أبعد من ذلك في الغرب، وفي باريس تحديداً، حيث سيكون لنا مقال مخصّص لمقاهيها لاحقا.