المقاومة الفلسطينية ودرس التعويل على الذات

29 نوفمبر 2023
+ الخط -

في تقديري، ثمّة نوع من الإجماع في المجال العربي والإسلامي، على أنّ معركة طوفان الأقصى حدثٌ نوعي على عدّة مستويات، عسكرية وسياسية واجتماعية وثقافية، وهو بالتالي حدثٌ للتأمل والقراءة المستفيضة، وجدير بندوات متعدّدة في مراكز الأبحاث لقراءة سياقاته وطبيعته ومآلاته على مختلف الأصعدة، المحلية والإقليمية والدولية.

إذن، إنّه حدثٌ، يبدو مشبعًا بالدروس والأسئلة، ومن المهم جدًا التفكير في هذه الدروس وهذه الأسئلة وتفكيكها للاستفادة منها والبناء على ما نصل إليه من نتائج. ولا شك، أنّ هذا الأمر يحتاح إلى جهد جماعي منظّم، وإلى اشتغال على أكثر ما يمكن من المعطيات للوصول إلى النتائج، لكن ذلك لا يمنع من كتابة ما يمكن أن يُشير إلى البعض من هذه الدروس والأسئلة. 

في هذا الإطار يمكنني القول إنّ من الدروس المباشرة لما أنجزته وتنجزه المقاومة في مواجهة الاحتلال، هو اعتمادها على قواها الذاتية في التخطيط والتدريب والتصنيع والإعلام، وهو ما جعلها مستقلة القرار والإرادة، وبعيدة عن كلّ ارتهان إلى أيّة قوة خارجية إقليمية أو دولية. يتجلّى ذلك في عدّة أمور، منها الملموس والواضح للعيان، وخاصة في مجالات التصنيع العسكري والإعلام وتهيئة الحاضنة الاجتماعية الداعمة.

التعويل على الذات لم يكن منحصرًا في حدود النخبة السياسية المقاومة، وإنّما كان بتوفير الحاضنة الاجتماعية الداخلية المنخرطة في المشروع والداعمة والمستعدّة لدفع الأثمان الضرورية

في جانب التصنيع العسكري، لاحظنا استعمال الأسلحة المصنّعة محليًا التي أثبتت نجاعتها في مواجهة الدبابات وناقلات الجند الإسرائيلية وساهمت في تكبيد الاحتلال عددًا كبيرًا من القتلى. والنجاح هنا مضاعف لأنّها صناعة تطوّرت في ظلّ حصار خانق، ومن كلّ الجهات. واللافت في هذا الإنجاز، أنّ هذه الأسلحة أصبحت ماركات مسجلة باسم المقاومة تستثمر فيها أسماء رموزها مثل ياسين، والزواري وغيرهم، وهو أمر مهم من الناحية النفسية والمعنوية في مثل هذه المعارك. ولا يقتصر الأمر على نوعية هذه الأسلحة، بل يتعداها إلى الجانب الكمي في التصنيع الذي يبدو كبيرًا بالنظر إلى أنّ المقاومة مازالت قادرة على إطلاق الصواريخ ومختلف القذائف باتجاه الآليات العسكرية والمدن الإسرائيلية بشكل مستمر، وإلى آمداء مختلفة تصل حتى تل أبيب، أي ما يقرب من مائة كلم. طبعًا، كلّ ما ذكرنا لم يكن منفصلًا وبعيدًا عن التعاون مع المساندين الإقليميين، لكن بصمة الذات تبقى واضحة. 

في الجانب الإعلامي لاحظنا التعويل على الذات في تقديم البيانات العسكرية بشكل دوري مشفوعة بتسجيلات مصوّرة عن عمليات كتائب القسّام ضد الاحتلال، وهو ما منح هذه البيانات وخطاب حماس عمومًا، مصداقية لدى الرأي العام المتابع للحرب، وجعل من الناطق الرسمي، أبوعبيدة، رمزًا وأيقونة، ومنحه شعبية كبيرة لدى المتابعين. هذا الأمر يعكس وعيًا كبيرًا بقيمة الإعلام في مثل هذه الأحداث وقدرته على رسم الصورة التي تريدها المجموعة وتأثيره على الداعم، وعلى العدو في آن واحد، خاصة إذا كان يتمتّع بالمصداقية. وهذا لا يتحقّق إلا إذا كان من إنجاز الذات لا بتوظيف متدخل خارجي يمكن أن ينقلب في أيّة لحظة. 

والتعويل على الذات لم يكن منحصرًا فيما ذكرنا، وفي حدود النخبة السياسية المقاومة، وإنّما كان بتوفير الحاضنة الاجتماعية الداخلية المنخرطة في المشروع والداعمة والمستعدّة لدفع الأثمان الضرورية، خاصة وأنَّ المطلب هو مطلب الاستقلال والتحرّر من الاحتلال. وما ردود فعل الكثير من الغزيين التي شاهدناها على التلفاز من دعم للمقاومة واستعداد للصمود والبقاء في غزة رغم العدوان إلا دليلاً على ذلك. والدعم الداخلي في مثل هذه المعارك مهم وأساسي للنجاح والاستمرار لأنّه القوة الدافعة للمقاومة وجندي الاحتياط في المعركة. 

تقدّم المقاومة الفلسطينية درسًا مهمًا لكلّ الدول، وخاصة دول الجنوب العربية والإفريقية التي ما زالت مرتهنة إلى الخارج بشكل كبير

هذه بعض الأمثلة عمّا يجسّد فكرة التعويل على الذات لدى المقاومة الفلسطينية في غزّة على رغم صعوبات الحصار الذي استمر لسنوات طويلة. وهو التعويل الذي قاد إلى نجاحها ودعم قدراتها عبر الزمن لتنجز ما أنجزت. ولعلّ أهم إنجاز هو أنّها، وفرت لنفسها، بكلّ ما سبق ذكره، الأوراق اللازمة لتكون حرة ومستقلة في حركتها ومواقفها والدفاع عن خياراتها في مراحل التفاوض، بكلّ نديّة، ومن موقع القوة الواعية بالتوازنات الإقليمية والدولية، وهو ما يجعلها رقمًا صعبًا في نحت صورة مستقبل القضية الفلسطينية، وإن لم تنته المعركة بعد.

هنا، تقدّم المقاومة الفلسطينية درسًا مهمًا لكلّ الدول، وخاصة دول الجنوب العربية والأفريقية التي ما زالت مرتهنة إلى الخارج بشكل كبير، حتى في أبسط الأشياء، وهو ما جعلها عاجزة عن بناء دول قوية ومجتمعات مزدهرة. 

إنّ فكرة التعويل على الذات هي العمود الفقري لأيّ مشروع وطني يطمح إلى تحقيق الاستقلال الحقيقي والمساهمة الفعالة في العالم، وهي لا تعني معاداة الخارج ومواجهته، أو قطع أواصر التواصل معه، بل بالعكس يمكن أن تكون في إطار التعاون المشترك في إطار احترام إرادة الشعوب في تحقيق استقلالها. فهل تعي قيادات وشعوب الجنوب هذا الدرس؟