هل أخطأت المعارضة السورية في الرهان على الدور التركي؟
دينا رمضان
رغم الاستهجان الكبير من التحوّل الأخير في الخطاب التركي تجاه نظام الأسد، إلا أنّه جزء من استراتيجيتها البراغماتية التي تسعى لحماية مصالحها. وبغض النظر عن شرعية دوافع تلك الاستراتيجية من عدمها، إلا أنّ تحليل الأحداث يثبت أنها لم تكن في مصلحة المعارضة السورية، علماً أنّ بحث أنقرة عن مصلحتها ليس بالأمر المفاجئ، ومن السذاجة الاعتقاد أنها ستفرّط بمصالحها لأجل أحد.
بدأت نقطة التحوّل الرئيسة عند إسقاط طائرة روسية من قبل القوات التركية عام 2015، والذي لحقه غضب روسي تمخّض عن معاقبة تركيا بعقوبات اقتصادية بارزة.
لم يكن تخوّف تركيا من الغضب الروسي نتيجة العقوبات الاقتصادية أو السياسية وحسب، بل جاء أيضًا من غياب دعم الناتو، وعلى رأسه أميركا، للموقف التركي، ليس في هذه الحادثة وحسب، بل أيضًا في غياب الدعم لإنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، وفي غياب الجدية بإسقاط الأسد.
بدأت الأمور تأخذ وضوحًا أكثر بعد الموقف الداعم الذي وجدته تركيا من روسيا، عشية محاولة الانقلاب الفاشلة فيها، مع خيبة أمل تجاه الغرب، وخاصة أميركا بعد رفضها التعاون في ملف منظمة غولن الموجودة في أميركا، والمتهمة من قبل تركيا بالتخطيط للانقلاب.
هذه الأحداث، وغيرها، دفعت تركيا لاختيار روسيا شريكًا استراتيجيًا ذا قوة عالمية، يمكن الاعتماد عليه إلى حدٍّ بعيدٍ على الرغم من الاختلافات البينية، أكثر مما يمكن الاعتماد على الشريك الغربي المتخاذل.
وهنا، كان لا بدّ للبلدين من رفع تعاونهما وتفاهماتهما الاستراتيجية مخافة حصول حادثة جديدة قد تودي بعلاقتهما إلى هاوية سحيقة لا يمكن الرجوع عنها.
بدا ذلك واضحًا في مسار أستانة بعرابيه، تركيا وإيران وروسيا، والذي عمل على تخفيف الاقتتال العسكري في سورية بالتنسيق بين عدد من الجبهات لمنع حدوث اصطدام مصالح حقيقي لتلك البلدان.
بحث أنقرة عن مصلحتها ليس بالأمر المفاجئ، ومن السذاجة الاعتقاد أنها ستفرّط بمصالحها لأجل أحد
ضمن هذا السياق، تمّت هندسة اتفاق خفض التصعيد في مناطق النزاع الأربعة من قبل روسيا. استراتيجياً، تمّ تطبيقها ببراعة للاستفراد بالمعارضة المسلحة في كلّ منطقة على حدّة، حيث انتهى الصراع، في كلّ منها، بعدم قدرة المعارضة العسكرية على الاستمرار ضد القوات الروسية والإيرانية والنظام السوري، إضافة إلى المليشيات المختلفة؛ إذ كانت هذه القوات تركِّز على كلّ منطقة من مناطق وجود المعارضة المسلحة، لينتهي الحال بها إلى الاستسلام، ثمّ الترحيل بالباصات الخضراء إلى منطقة الشمال.
لم يؤدِّ هذا إلى تخلّي المعارضة عن سلاحها وانتقال مقاتليها إلى الشمال فحسب، بل أيضًا إلى حدوث كارثة إنسانية تمثّلت بتهجير معظم سكان تلك المناطق واحتجازهم في منطقة الشمال الغربي التي أصبحت سجنًا مفتوحًا لنحو 4 ملايين من معارضي النظام السوري.
وبالطبع، أدى انخفاض وتيرة الاقتتال وظهور نتائج "إيجابية" على الأرض، إلى تراجع الاهتمام الدولي والإقليمي بمسار جنيف السياسي، وإعطاء الاهتمام لمسار أستانة الذي قد يؤدي إلى انتهاء النزاع.
وهنا يحضر الجدل الذي كان سائدًا، على الأقل بين السوريين، عندما بدأ مسار أستانة، فعلى الرغم من رفض عدد وازنٍ منهم لهذا المسار، لإخلاله بمبادئ الثورة (بحسب رأيهم)، إلّا أنّ الرأي المقابل كان يرى وجوب الوثوق بتركيا كضامن، كونها الحليف الإنساني المعنوي والمادي للسوريين.
على التوازي، جرى إفراغ الائتلاف الوطني من مضمونه، وأصبح مجرد تسمية من دون أي دور فاعل، خصوصًا في ظلّ وجوده الخالص في الحضن التركي، معنويًا وفيزيائيًا، بعد الخلافات الأخيرة مع السعودية.
جرى إفراغ الائتلاف الوطني من مضمونه، وأصبح مجرد تسمية من دون أي دور فاعل
إنّ استقبال تركيا لما يزيد عن 3 ملايين لاجئ سوري، إضافة إلى "النجاح" النسبي الذي حقّقه مسار أستانة في احتواء الصراع العسكري، قد منحها يدًا عليا في الملف السوري، خاصة مع التفويض غير المباشر لها من الغرب بالتصرّف حيال هذا الملف، مع ضمانها لعدم تأذّي تلك الدول من نتائجه، ومن تلك الضمانات كان احتجاز اللاجئين في تركيا وعدم السماح لهم بالانتقال إلى أوروبا. وكانت حادثة إطلاق اللاجئين السوريين إلى أوروبا في 2020، مثالاً واضحاً على الاستخدام الوظيفي لهذا الملف، خاصة في ظلّ حالة الرهاب التي تعيشها أوروبا تجاه مسألة تزايد عدد اللاجئين فيها.
أما عن حوكمة منطقة الشمال السوري؛ فإنّ عدم القدرة على ضبطها أو تطبيق أي نوع من أنواع الحوكمة صادمٌ إلى حدٍّ كبيرٍ، فحتى تجارب الحوكمة التي بدأت بشكل ذاتي مع بداية الثورة، والتي كان من المتوّقع لها أن تزدهر مع ازدياد الخبرة، آلت إلى فشل ذريع حتى في المناطق التي تسيطر عليها تركيا.
وأما حكومة المعارضة المؤقتة، والتي تم تعيين رئيس تركماني لها موالٍ لتركيا، لم تستطع تحقيق إنجازات فعلية على الأرض. وهذا يستدعي إشارات استفهام كثيرة، خاصة أنّ وجود منطقة معارضة ذات نظام حوكمي ناجح لن يزيد ثقة المعارضين بما بدؤوه من ثورة ومطالب مشروعة فحسب، بل قد يؤدي أيضًا إلى توّجه أنظار الموالين للنظام لتلك المنطقة وتشكيكهم في أوضاعهم، إضافة إلى لفت انتباه الداعمين على اختلافهم، والذين كان من الممكن اجتذابهم لدعم تجارب هذه المناطق وإنجاحها.
وعن الوضع العسكري والأمني المنفلت، فهذا ملف آخر في حدِّ ذاته. فقد قامت تركيا بتنظيم الفصائل العسكرية ضمن "الجيش الوطني السوري"، ولكنها سلّمت المراكز القيادية للفصائل إلى شخصيات غير مؤهلة، ومعروفة بفسادها، ما أدى عمليًا إلى تحوّلها إلى ما يشبه العصابات الحاكمة للمنطقة. وبالطبع، ناهيك عن المقاتلين السوريين الذين استخدمتهم تركيا كمرتزقة في حروبها الخارجية في ليبيا وأذربيجان.
النتائج قد تكون وخيمة إن لم يستعد السوريون قرارهم الوطني في أسرع وقت ممكن
من المبالغ فيه القول، إنّ تركيا هي السبب الوحيد في الأحداث والأحوال المذكورة آنفًا، فالمعارضة ذاتها تتحمّل المسؤولية الأكبر، إلى جانب طول فترة الصراع، بما حملته من متغيّرات دولية وإقليمية. خاصة في ظلّ تخاذل الدور الغربي والعربي عن التدخل في الملف السوري من خلال استراتيجية واضحة، على عكس حلفاء النظام، إيران وروسيا، الذين قدّموا دعمًا كاملًا ومستمرًا لحليفهم. على الرغم من قناعتنا، بأنّ طريقة إدارة الملف من قبل الأتراك بهذه الطريقة يمكن عزوها أيضًا إلى العديد من الأسباب الموضوعية والذاتية.
الآن، بعد هذه السنوات والنتائج، وعلى الرغم من تقليل بعض المحللين لخطورة بدء عملية التطبيع بين تركيا والنظام السوري بدعوى أنّ القيادة التركية الحالية تستخدم هذه الخطوة كتكتيك مرحلي لتجاوز مرحلة الانتخابات، وأنّ ذلك يجري لإرضاء الروس مؤقتًا فحسب، ينبغي الانتباه إلى أنّ التجارب السابقة، تشير إلى أنّ النتائج قد تكون وخيمة إن لم يستعد السوريون قرارهم الوطني في أسرع وقتٍ ممكنٍ.
وعلى الرغم من سوداوية وضع "المعارضة السورية"، إلا أنّ خطوة التطبيع هذه، على بشاعتها، قد أدت إلى إعادة الملف السوري إلى الواجهة الدولية مرة أخرى، وهذا أمر مهم، يجب على المعارضة استغلاله بأقصى درجة ممكنة، خاصة مع العداوة العالمية المتصاعدة ضد روسيا بسبب حربها الغاشمة على أوكرانيا. فالعقوبات الاقتصادية وغيرها أرهقت روسيا، وبالتأكيد قلّلت من أهمية الملف السوري بالنسبة لها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحليف الإيراني الغارق في توتراته الداخلية، والعقوبات الاقتصادية، خاصة مع إعلان أميركا عدم الجدوى من المفاوضات النووية معها. تُضاف إلى ذلك تأثيرات الوضع الإنساني والاقتصادي المرهق في مناطق سيطرة النظام، وهو الوضع الذي لم يعد محتملًا، وأصبح قابلًا للانفجار في أي وقت.
ومن جانب آخر، هناك تحرّك دولي ملحوظ، سواء أكان من التحالف الرباعي الذي أعلن دعمه لمطالب الشعب السوري ولتنفيذ القرارات الدولية، وعلى رأسها القرار 2254، إضافة إلى صدور تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الذي كان لتوقيت الإعلان عنه دلالات سياسية مهمة ضد خطوات التطبيع المتصاعدة، أهمها التذكير بجرائم الأسد، وبمسؤولية المجتمع الدولي عن معاقبته كما صرّح مديرها. هذه العوامل قد لا تكون كافية، لكنها من دون شك ضرورية للضغط باتجاه تسوية سياسية برعاية وإشراف عالميين.