المطابخ العائلية في رمضان
يبدو العالم مغرقاً في حداثته، تبدلت الخرائط كلها، الخريطة الجغرافية والاقتصادية والعائلية، تشتت العائلات السورية في أرجاء الأرض التي كانت مغلقة في وجوههم سابقاً، ومن بقي هنا أصبح معزولاً أو وحيداً. أما الخريطة الاقتصادية فقد عصفت بكل التقاليد الإنفاقية السابقة لدرجة أن تقاليد كثيرة قد تراجعت، بل وتتراجع بتسارع يومي حتى تكاد أن تنقرض وخاصة تقاليد الوجبات والطعام والمصاريف العائلية.
قررت سهام وشقيقتها لمياء لي ذراع ارتفاع الأسعار الرهيب، ستنشئان مطبخاً رمضانياً خاصاً بهما، ستقضيان شهر رمضان معا في بيت لمياء الأقرب إلى السوق الشعبي وما تبقى من أفراد العائلة، وقد تمت عملية الانتقال قبل قدوم شهر رمضان بأسبوع كامل، زارت الشقيقتان السوق الشعبي المجاور وملأتا خزائن البيت بكل ما تحتاجانه، اعتمدتا قاعدة صفر من المواد قبل هذا الأسبوع وتشاركتا كافة النفقات وكأنهما تؤسسان لبيت جديد من كيس الملح وحتى اللحوم والأرز والعصير، حتى أنهما أفردتا لهذا مشروع أسطوانة غاز خاصة تقاسمتا سعرها مناصفة، بدا المشروع مشروعاً اقتصادياً خالصا، وتبادلتا النكات وهما تطلقان عليه اسم مطبخ سهام ولمياء، وقد وجهتا الدعوات للقريبات والأقرباء وهن يكررن الاسم قائلات: تفضلوا إلى مطبخ سهام ولمياء.
حقيقة الدوافع وراء هذه المبادرة ليست للتوفير فقط وليست بسبب سهولة توفير المواد اللازمة للطهو ولتحضير وجبات السحور، بل ثمة دافع اجتماعي وعاطفي لذلك، ستسهران معا في ظل عتمة خانقة وستبددان سطوة العتم بشرب القهوة أو الشاي معا والأهم أنهما وعبر أحاديث ومسامرات ليلية ستسترجعان دفء لحظات انقضت، وأصبحت ماضياً سحيقاً، سنوات كانت عامرة بوجود العائلة الكبيرة، وبسهولة ممارسة طقوس جماعية تكفي متابعتها ليمر الوقت سريعا دونما أي قلق أو شعور بالضجر والوحدة.
تسببت الهجرة والنزوح بتغيّر خريطة اليد العاملة، انخرطت النساء في مهام اقتصادية جديدة، لسد النقص الحاصل في القوة العاملة ولتأمين دخول وموارد مالية لعائلات فقدت رجالها ومواردها الاقتصادية
تسببت الهجرة والنزوح بتغيّر خريطة اليد العاملة، انخرطت النساء في مهام اقتصادية جديدة، لسد النقص الحاصل في القوة العاملة ولتأمين دخول وموارد مالية لعائلات فقدت رجالها ومواردها الاقتصادية، لكن النتائج لم تكن وردية كما اعتقدت غالبية النساء اللواتي انخرطن في سوق العمل، باتت الأعباء مضاعفة عليهن خارج المنزل وداخله، لذلك لجأت بعض النساء إدارة مشاريع صغيرة خاصة بهن، في بيوتهن أو في منشآت عائلية صغيرة الحجم وقليلة المردود الاقتصادي لكنها وكما يقال أقل هدرا لوقت وطاقات وجهود النساء، رددت مريم مختصرة تجربتها بعبارة: (من العب للجيبة) ، أي أنها استطاعت بمشروعها الصغير والذي دشنته قبل شهر رمضان بأسبوع التقليل من حجم الخسارات وخاصة التي يقتطعها رب العمل من أجورها حين تضطر للغياب عن العمل ولو لطارئ صحي، كما أنها وفرت أجور المواصلات وعناء استعمالها والوقت المهدور للوصول والعودة.
أسست مريم مطبخا صغيرا في غرفة جانبية في بيت أمها، وتشاركت العمل فيه مع جارتها وزوجة أخيها، حتى الأم السبعينية شاركت بإعداد الكبب، دعما للمشروع الذي غطى حاجة بيت مريم وبيت أخيها ووالدتها من الوجبات الجاهزة، عدا عن تأمين سيولة مالية معقولة وإن لم تكن كافية، قدمت مريم عروضا تشجيعية في شهر رمضان، على شكل تخفيض رمزي بسعر بعض الوجبات أو تقديم قرص كبة مجانا مثلا مع كل عشرة أقراص.
تجاوزت مريم مخاوفها الإنتاجية والتسويقية منذ الأسبوع الأول بسبب خصوصية شهر رمضان وبسبب تعاطف الناس معها كامرأة معيلة، عدا عن أن والدتها لم تطلب منها إيجاراً للمكان واكتفت راضية بالحصول على وجباتها اليومية مجاناً منه.
تنتظر مريم انتهاء شهر رمضان لتقيّم النتائج الحقيقية لمشروعها، في جعبتها أفكار كثيرة، لكنها تعتمد بشكل أساسي على الحذر وعدم المبالغة تداركا لأي خسائر لا تحمد عقباها.
ترتبط الاستثمارات الناجحة بالشجاعة أولا، ويرتبط نجاح النساء بتحفيز القوة الداخلية ومحصلة التجارب، لكن تبقى المحاولة طريق النجاح والعبور نحو الاستقرار مهما تغيرت الخرائط.