المسألة الأمازيغية بين سياستين
لم تنجح الدولة الجزائرية في إيجاد مقاربة ناجعة لمعالجة إشكالية الأمازيغية وإنهاء حالة التوتر الدائم بين الأمازيغ والسلطة المركزية. ولعل حدث تنظيم المسيرة الشعبية أخيراً من قبل حركة المطالبة بتقرير مصير القبائل في الجزائر "الماك"، بقيادة فرحات مهني، في العاصمة الفرنسية باريس، يؤكد أنّ التوتر متفاقم وفي تزايد مستمر، ويأخذ يوماً بعد يوم أبعاداً كبرى، لاسيما بعد موقف الولايات المتحدة الأميركية التي أسقطت اتهام قصر المرادية ضد هذه الحركة، معتبرة إياها حركة غير إرهابية.
والحقيقة أنّ "الماك" حركة سياسية سلمية لا تقاتل بالسلاح، بل ترفع مجموعة من المطالب التي تطورت مع مرور الوقت، من المطالبة بالحكم الذاتي إلى تقرير المصير، وتأسيس حكومة مؤقتة في الخارج، وطرح القضية على أنظار الأمم المتحدة.. ونالت تعاطفاً ومساندة من لدن منظمات وهيئات دولية.
إنّ إيجاد أجوبة ملموسة عن المطالب الأمازيغية لا يمكنه أن يتحقق إلا في إطار مناخ ديمقراطي يؤمن بعدالة وشرعية هذه المطالب، ليس في الجزائر فقط، بل في عموم بلدان شمال أفريقيا "بلاد تامزغا".
الواضح أنّ الدولة الجزائرية عجزت عن معالجة هذه الإشكالية منذ أن طرحت كمشكل عمومي في سنوات الثمانينات من القرن الماضي، إثر أحداث "الربيع الأمازيغي"، وكيف أنّ القمع الذي ووجهت به احتجاجات أمازيغيي الجزائر لم ينتج إلا مزيداً من الاحتقان والتوتر وعدم الثقة في مؤسسات الدولة، إذ لم تنفع القرارات المتخذة، كإحداث المفوضية السامية للأمازيغية وغير ذلك، في تكسير جليد عدم الثقة بين الجانبين.
إن إيجاد أجوبة ملموسة عن المطالب الأمازيغية لا يمكنه أن يتحقق إلا في إطار مناخ ديمقراطي يؤمن بعدالة وشرعية هذه المطالب
لقد اعتبر النظام الجزائري الحاكم أنّ خيار السلطوية هو الأنجع للتعامل مع المطالب الأمازيغية، وها هو اليوم نجده يجني ثمار خياره، وكيف أنّ جزءاً من الأمازيغ، منهم سياسيون ومثقفون وإعلاميون وفنانون، اختاروا بل أرغموا على الاشتغال خارج أرض الوطن، بل والمطالبة بتقرير مصير الشعب القبايلي وتأسيس حكومة مؤقتة بالخارج.
لا يقابل هذا الوضع المتوتر في الجزائر ما تعرفه العلاقة بين الدولة والناطقين باللسان الأمازيغي بالمغرب، ربما قد يجد هذا الأمر تفسيره في مجموعة من العوامل، منها الخصوصية السوسيو- ثقافية والتاريخية لهذا الإشكال في المغرب والجزائر، ونورد في هذا الإطار ما قاله الملك محمد السادس، في مقابلة مع صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية في سبتمبر/ أيلول 2001: "إن مطالبهم ليست هي نفسها مطالب القبايل. فعندنا الحساسية الأمازيغية– وليس البربرية– هي حساسية اندماجية. فأنا مغربي قبل أن أكون أمازيغياً أو عربياً، وهناك مغاربة أمازيغ وآخرون من أصل عربي أو أفريقي أو أندلسي، فأبي كان من أصل عربي، فيما أمي أمازيغية، وهذه الحقيقة تعبر عن العبقرية المغربية".
كما أنّ الحركة الأمازيغية في الجزائر لها طابع سياسي حاد، خلافاً للطابع الثقافي المعتدل الذي تتسم به مثيلتها بالمغرب. إضافة إلى أنّ الاستعمار الفرنسي الذي عمّر في الجزائر فترة طويلة جعل الحركة الأمازيغية هناك ترتبط بفرنسا التي تستعملها كورقة سياسية بين الفينة والأخرى في علاقاتها مع النظام الجزائري، فضلاً عن أنّ غياب الإرادة السياسية وفقدان الثقة في مؤسسات الدولة، خاصة بعد أحداث مقتل الشاب ماسينسا أقرموح في مقر الدرك الوطني بمدينة تيزي وزو سنة 2001، جعل العديد من الإجراءات المتخذة ينظر إليها، كما لو أنها مجرد مسكنات أو ردود فعل ضد المغرب.
لقد استطاع المغرب بعد سنة 1999 وضع أسس مقاربة لتدبير إشكالية الأمازيغية، أساسها اقتناع أعلى سلطة فيه بمشروعية المطالب الأمازيغية، ومرجعيتها وفلسفتها الخطاب الملكي التاريخي بأجدير سنة 2001، وما تلا ذلك من خطوات إصلاحية مؤسساتية تدرجية محسوبة توجت سنة 2011 بترسيم اللغة الأمازيغية في دستور المملكة.
كما أنّ الحوار بين الحركة الأمازيغية والدولة في عهد الراحل الملك الحسن الثاني لم ينقطع، رغم القمع الذي كانت تواجه به أنشطة ونضالات "إيمازيغن" في الرشيدية والريف والرباط، وغير ذلك، وهذا ما جعل الأفق النضالي يبقى مفتوحاً لمعالجة هذه الإشكالية قبل أن تأتي عوامل تداخل فيها الذاتي بالموضوعي وتفرز لنا محطة أجدير كمنعطف تاريخي في تعاطي الدولة مع هذا الموضوع.
فنجاعة وفعالية المقاربة المغربية لا تعترف بها تقارير المنظمات الدولية فحسب، بل حتى العديد من الفاعلين الجزائريين أنفسهم الذين ما فتئوا يشيدون بالتطور الهادئ الذي عرفته المسألة الأمازيغية، ومنهم على سبيل المثال المناضل فرحات مهني، زعيم حركة "الماك"، الذي سبق في لقاءاتنا معه أن أبدى لنا إعجابه بهذا التطور، مبرزاً طبيعة تعامل الدولة ليس مع النشطاء الأمازيغيين فقط، بل حتى مع المعارضين السياسيين أيضاً.
إن المقاربة المغربية المعتمدة اليوم في تدبير المسألة الأمازيغية تتوفر على كل المقومات لتتحول إلى نموذج يحتذى في شمال أفريقيا، ذلك أنّ تلاقي رؤية الدولة المغربية مع نضالات الحركة الأمازيغية أزال سوء الفهم الحاصل في السابق، وأعاد الاعتبار للأمازيغية كلغة وثقافة وهوية وحضارة وانتماء وتاريخ. وهذا ما لم تفلح فيه الجزائر.
ولهذا، فقطار تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية لا خيار أمامه إلا أن يأخذ طريقه بشكل سليم وسريع، وأن تعمل الدولة على تدارك تأخر التنمية الاجتماعية والاقتصادية في مناطق تعيش التهميش والإقصاء، ضمن رؤية استراتيجية واضحة وسياسة عمومية ناجعة، لأن الأمازيغية، كما سبق أن أشرنا، هي قضية سياسية ذات أبعاد وطنية وإقليمية متشعبة. ولهذا فالحكومة مجبرة على جعل ورش الأمازيغية ضمن الأولويات.
الأكيد أن المغرب نجح في احتواء مشكل الأمازيغية والتفاعل الإيجابي والذكي مع المطالب المطروحة في هذا الشأن، من خلال جعلها ضمن محاور المشروع الديمقراطي التنموي، في حين أنّ الجزائر فشلت فشلاً ذريعاً في أسلوب التعاطي مع هذه الإشكالية التي أخذت أبعاداً سياسية دولية.