المرض.. ذلك البُعد الخفي!
عبد الحفيظ العمري
يشترك الناس في ثلاثة أمور وجودية: الميلاد والمرض والموت، ويكاد يكون المرض هو الحالة التي يمكن أن نحكي عنها؛ لأنّ الاثنين الآخرين لا سبيل للعودة إلى الأول أو العودة من الثالث!
وإذا كنا سنتحدث عن المرض، فأنا يخالجني الظن أنّ المرض موجود في أحد أبعاد الكون غير المرئية، التي تتحدث عنها الفيزياء الحديثة، وهو هناك خفي إلى أن يطل عليك، عزيزي القارئ، كلما هزه الشوق لمعانقتك!
وما وقر في أذهاننا اليوم، أنّ لا مرض بلا سبب أو أسباب جلبته لواقعنا المعاش، سواء عرفنا تلكمُ الأسباب أو غفلنا عنها، فقد انتهى زمن الأساطير ورد المرض للغيوب الملتبسِة علينا.
وحكاية نضال البشرية ضد المرض هي حكاية البشرية نفسها منذ وجودها على هذه الأرض قبل ثلاثة ملايين سنة تقريباً، حتى إننا نستطيع أن نقول إنّه لولا المرض لما تقدم البحث العلمي!
اليوم، مع التقدم العلمي الذي نعيشه، قهر الإنسان أمراضاً كثيرة؛ فصارت أخباراً من الماضي في أغلب مناطق العالم، مثل مرض الجدري (تمَّ الإبلاغ عن الحالة الأخيرة للجدري في عام 1977م، وفي عام 1980م أعلنت منظمة الصحة العالمية أنه تم القضاء عليه تماماً)، وفي المقابل ظهرت أخرى عجز الإنسان عن قهرها، لعل أشهرها هو مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، وأنواع السرطان المتعددة، وغير ذلك.
أن تكون مريضاً معناه أنّ كل أمورك "ملخبطة"؛ لأنّ المرض هو الوجه الآخر للخبطة؛ ترتبك مواعيد حياتك وإيقاعها الحيوي مع الطارئ الذي حل في جسمك، الذي أعلن حالة الطوارئ المتجسدة في الأعراض المصاحبة للمرض من حمى وقشعريرة وغثيان…إلخ (طبعاً على حسب نوع مرضك).
من الأمراض التي تعتريني شخصياً بشكل متكرر الزُّكام، وما يترتب عليه من فقدان لحاستي الطعم والشم، فتتساوى لدي روائح وطعوم كل شيء.
أعرف أنّ الحياة صارت بلا طعم، لكننا نقول هذه العبارة مجازاً، بيد أنّها مع الزُّكام تصبح حقيقة معاشه!
ولعلي محظوظ بالزُّكام لأنه من أهون الأمراض، غير أن المرض هو المرض مهما كان نوعه، بما يُحدثه من إرباك للمريض، فلا شيء يعادل الصحة والعافية.
علاوة على أنك إذا مرضت، لا سمح الله، في جغرافية منسية كاليمن، فستكون لوحدك وجهاً لوجه مع المرض، حيث لا منظومة صحية حقيقية تقف بجوارك، لأنّها جزء من منظومة بلد غارق في الفوضى واللامبالاة والفساد، وهذه الثلاثة كفيلة بتدمير أي بادرة للنجاح، لذا أفضل نصيحة تجدها هنا ليست "الوقاية خير من العلاج"، بل "الوقاية هي العلاج نفسه"!
أعرف أنّ الحياة صارت بلا طعم، لكننا نقول هذه العبارة مجازاً، بيد أنّها مع الزُّكام تصبح حقيقة معاشة!
ذهب الناس اليوم إلى الطب البديل للبحث عن العافية، في منطقتنا العربية يكاد ينحصر في طب الأعشاب أو الطب الشعبي، كما نسميه.
إلا أن هذا النوع من الطب لم يلقَ الاهتمام المناسب من الباحثين، فلم تتم دراسته دراسة علمية رصينة، مما فتح الباب للدجالين، مع أنّه طب أصيل وهناك من ممارسيه مبدعون، لكني أحسبهم "أنانيين" لا يوثقون سر مهنتهم في كتب ليستفيد منها الآخرون، وكأنها أسرار نووية!
بالمجمل، هو طب له قواعد رصينة متوارثة، وقد مارسه العطارون منذ القدم، ولا نزال نذكر هذين البيتين الشعريين الشهيرين:
عَجوز تُرَجِّى أن تكون فَتِيّة.. وقد نَحَل الجَنْبَان واحدودب الظَّهْر
تَرُوحُ إِلَى الْعَطَّارِ تَبْغِي شَبَابَهَا.. وهل يُصْلِح العطار ما أفْسَدَ الدهرُ
ويظل طب الأعشاب، عندي، أفضل حالاً من عيادات التداوي بالقرآن الكريم لعلاج السحر والمس و.. إلخ.
هذه العيادات "الدكاكين" التي انتشرت في زماننا باسم الدين؛ فنحن شعوب عاطفية أمام الدين، وكل منْ يريد أن يمرر بضاعته ويضمن لها الرواج، فما عليه إلا أن يدهنها بالدين!
إنّ التذرّع بأنّ القرآن فيه شفاء للعلل الجسدية يجب أن يوضع تحت المجهر؛ لأنّه يفتح الباب لكل "شيخ" كي يمارس هذا العلاج كما نشاهد في عصرنا.
أما أنا، فلا تقل لي أن أترك التداوي بالطب الحديث أو الأعشاب، مكتفياً بالآيات القرآنية فقط!
نعم، القرآن الكريم كتاب سماوي وله مكانته العظيمة في نفوسنا كمسلمين، لكن "استغلاله" بهذه الطريقة المهينة له وللعقل لا يصح، والروايات المتناقلة عن الرعيل الأول أنهم تداووا بآيات قرآنية ليست حجة على أحد في هذا العصر، لأنّها روايات فردية لم تشمل كل منْ سبق، زد على ذلك أن هناك حشداً كبيراً من أحاديث نبوية تدعو للتداوي بغير القرآن، والأخذ بالأسباب بما يستقيم مع روح الدين.
وظني أنّ القرآن الكريم يجود بعطائه العظيم على كل منْ يقرأه، فإذا كنتَ مريضاً فلتقرأ بنفسك القرآن الكريم بدون اللجوء لشيخ أو وسيط، ولا تفتح الباب لمنْ يستغلك باسم القرآن!
إنّ أمراض الأجساد يتم البحث عن علاجها في المستشفيات أو طب الأعشاب، أما أمراض العقول والتخلف فأين نجد علاجها؟
إذا كان المرض هو الوجه الآخر للخبطة؛ فبالقياس، تكون اللخبطة مرضاً يعاني منه الشخص "الملخبَط"، سواء كان مرضاً عضوياً أو معنوياً، وما أحوالنا المعاصرة إلا أعراض مرض أمتنا العربية التي ظلت تراوح في غيبوبتها منذ عقود، بل قرون كثيرة، فمتى تتعافى هذه الأمة المنكوبة؟