العفو الملكي ومستقبل "صحافة المرقة"
قام ملك المغرب، محمد السادس، بخطوةٍ موفّقةٍ ومهمّةٍ، تمثّلت بإصدار عفو عن صحافيين وكتّاب رأي وناشطين سياسيين، منهم من نشط على مواقع التواصل الاجتماعي.
وكلُّ من يتابع الشأن السياسي في المغرب، يعلم أنّ محاكمات توفيق بوعشرين وسليمان الريسوني كانت ذات دوافع انتقاميّةٍ وسياسيّةٍ أكثر من كونها جرائم جنسيّة. ولا ننسى الشاب عمر الراضي ورضا الطاوجني، الذي طلب العفو الملكي، نظرًا لأنّ محاكمته كانت غريبة جدًا؛ فهذه هي المرّة الأولى في تاريخ المغرب الذي نرى فيها وزير العدل يرفع دعوى على ناشطٍ حقوقي، ممّا تسبّب في سجنه لمدّة سنتين في المحكمة الابتدائية، لتُرفع العقوبة إلى أربع سنوات في محكمة الاستئناف.
وقال رضا الطاوجني في آخر فيديو له بعد العفو عنه: إنّ وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، سرق ستة أشهر من حياتي. وأنا أؤكّد ذلك، لأنّ السجن هو مكان يحمل في طياته قسوةً وعزلةً إلى جانب الاكتئاب. لكن في المغرب، هناك عذاب من نوع آخر لا يمكن تصوّره، ومن عاش التجربة سيؤكّد ذلك.
أثنى الجميع على الموقف الملكي وفرح لخروج المعتقلين من السجن. كما نأمل في الإفراج عن نشطاء الريف، والنقيب محمد زيان خاصةً، نظرًا إلى سنِّه الكبير ومساره السياسي الغني منذ عهد الملك الحسن الثاني. والآن، بعد الإفراج عن صحفيين أكفاء ذوي مسارات قويّة في العمل الصحافي، ومنهم من كان يدير صحيفة مثل "أخبار اليوم"، التي كان يوم إغلاقها انتكاسة كبرى للصحافة المغربيّة، فقد كانت جريدة الصحافي توفيق بوعشرين مُمتعة في جميع صفحاتها ورائعة.
وإنّ اعتقال بوعشرين وزميله الريسوني، بالإضافة إلى العديد من الأقلام الحرّة، سمح ببروز صحافة بديلة. وبالنسبة لي، إنّ التوازن في المجال الصحافي يتجلّى في وجود أقلام حرّة تدافع عن مبادئ العدالة والشفافية، بالإضافة إلى نشطاء صحافيين يدافعون عن مصالح الدولة والنظام كذلك، وآخرين يكتبون ويعبّرون عن آرائهم بحريّة ودون قيود، ووفق المعقول.
صحافة موجّهة تخدم أجندات محدّدة، وصحافة تستخدم أسلوب "لي الذراع"
ما حدث في المغرب، وكما عشته وشاهدته، أنّه تم اعتقال صحافي كتب مقالًا بعنوان: "صفحة يجب أن تطوى"، سنة 2011، وقد حُكم على ذلك الصحفي بسنة حبس نافذة، ثم جاء الربيع العربي وأحدثَ انفراجًا كبيرًا في العالم العربي بصفة عامة، وتمّت إصلاحات كبيرة، وأصبح هناك هامش من الحريّة في المغرب، بصفة خاصة مع دستور 2011 وبداية عمل حكومة عبد الإله بن كيران، إلى أن بدأت سلسلة من الاعتقالات والمحاكمات، ابتداءً من سنة 2018، ليظهر نوع آخر من الصحافة، تُعرف باسم صحافة التشهير والتفاهة، وهذا يعود إلى أنّ الساحة أضحت فارغة.
"صحافة التشهير والتفاهة" هذه، جمعت أشخاصًا بعيدين كلّ البعد عن العالم الصحافي، بل إنّه في بعض الحالات، يُمارس هذه الصحافة أشخاص ليس لديهم أيّ مستوى دراسي، ومع ذلك يُعطون بطاقات صحفية ويمارسون المهنة بكلِّ بشاعةٍ وبدون قواعد. الخطر في هذه الصحافة أنّها تُشهّر بالآخرين بغير وجهِ حق، وتعرض الحوادث من وجهةِ نظرٍ واحدة فقط، مُقصيةً الطرف الآخر، وهو ما يؤدّي إلى انحياز وانعدام أبجديات الصحافة الأخلاقية، التي تهدف إلى البحث عن الحقيقة وعرض الحقائق كما هي.
يمكن القول إنّ هذه الصحافة أصبحت لوبيًا يمارس أسلوب "لي الذراع" عن طريق توجيه الرأي العام لخدمة مصالح جهة ما، قدّمت ظرفاً أصفر لذلك المنبر الصحافي. وعندما غاب رجال ونساء المهنة، انتشرت صحافة لا يُفتخر بها، وافتقدنا التوازن في الساحة الإعلامية. فقدنا الصحافة التي كانت تتناول القضايا وتكشف الحقيقة وتعطي للعدالة خيوط الانطلاق، واستُبدلت بصحافةٍ، تُعرف بين العامة في المغرب، باسم "صحافة المرقة" التي تفتقر للمضمون والقيمة.
اليوم، نحن بحاجة إلى التوازن، وقرار الملك محمد السادس كان في محلّه. وبعد خروج نخبةٍ من الصحافيين والناشطين السياسيين وكتّاب الرأي، يجب علينا أولاً؛ مساعدتهم وتمكينهم من كلِّ الوسائل التي تعطيهم الانطلاقة الجديدة لإعادة التوازن، لأنّ الوضع في الساحة الإعلامية اليوم كارثي. نرى صحافة موجّهة تخدم أجندات محدّدة، وصحافة تستخدم أسلوب "لي الذراع"، أمّا المعقول والحقيقة كما نقول باللهجة المغربية: الله يجيب.
ثانياً؛ نتمنى أن تكون هناك التفاتة ملكية في هذا الشهر، الذي يحتفل فيه المغاربة بعدّة أعياد وطنية، وأن يتم الإفراج عن نشطاء الريف والنقيب زيان. نتمنى ذلك من القلب، ليكون الفرح شاملاً، ونعيش في مغرب يستوعب الجميع، ويسمح بمشاركة كافة المواطنين بغضّ النظر عن التوجّه أو الخلفية، المهم أن يكون مغربًا متقدّمًا ديمقراطيًا متسامحًا وشاملاً. أي علينا أن نطوي صفحة الماضي لأنّها بحق "صفحة يجب أن تطوى".