العروبة ووهم الانتماء والحرية
ما زلت أذكر أيّام مارس 2003، حينما سقطت بغداد في زلزال مدوّ لكل الذين يؤمنون بالعروبة، حينها كان جدّي، الثمانيني، الذي يعاني من اهتراء مزمن في مفاصله أقعده عن الحركة، وتعاني شرايينه وقلبه من وطأة ارتفاع ضغط الدم، جالسا أمام شاشة "الجزيرة" كل الوقت، صادحا بالدّعاء لنصرة أهلنا في العراق، صائما خمسة أيام متتالية نذرا لله لعله يحمي العراق وصدام! سألته يا جدي: والكويت ذبحت على يديه، هو من شرّع ذبح العراق، أليس كذلك؟ قال يا بني، نقتل نحن العرب بعضنا فأهلاً، أمّا أن تقتلنا أميركا فلا.. لأنّ العروبة يا بني دارنا، وأصلنا، وعرضنا ومستقبلنا.. والآن بعد ما يناهز الستة عشر عاماً على رحيله، تمنيت لو قلت لجدّي إن واقعنا ومسارنا يؤكدان أن العروبة انتماء واهم يعشش في عقول البعض، فلا اللغة رباط، ولا الأرض جامعة، ولا المسار مشترك، ولا الإسلام نسيج لها.
كان المفكر عزمي بشارة أكثر وضوحاً في فهمه للعروبة. حينما كتب أن "القومية العربية ليست رابطة دم ولا عرق، بل هي جماعة متحلية بأدوات اللغة ووسائل للاتصال الحديثة تسعى إلى أن تصبح أمة ذات سيادة". فهم بشارة لظاهرة العروبة، برغم وضوحه، لم يحدّد من هؤلاء السّاعين لأن يُصبحوا أمّة؟ لا أحد، أو بعض من الحركات القوميّة التي وأدت نفسها منذ الستّينيات، وبقيت منها أنفار تحلم. العرب الآن جماعة لم يعد يربط بينها شيء، اللغة انكسرت، ولو كانت في ظاهرها موجودة. وأغلب العرب ضاعت هويتهم، فلا هم منتمون للشرق أو الغرب، لا هم مؤمنون ولا هم ملحدون، لا هم أخلاقيّون ولا غير ذلك. حالة من الرّعب "الهووي" تجتاح شباب العرب إلى أن يأتي من يملأ فراغنا، طالحاً أو صالحاً.
كان المفكر عزمي بشارة أكثر وضوحاً في فهمه للعروبة. حينما كتب أن "القومية العربية ليست رابطة دم ولا عرق، بل هي جماعة متحلية بأدوات اللغة ووسائل للاتصال الحديثة تسعى إلى أن تصبح أمة ذات سيادة"
زيادة على ما ذهب إليه بشارة، فقد تبين خطأ ما ذهب إليه الداعية يوسف القرضاوي، حينما صرح في الدوحة سنة 2006 بأنّ "من يريد أن يفصل بين العروبة والإسلام، كمن يريد أن يفصل بين الروح والجسد". الربط خاطئ منذ البداية، لأنه لا يمكن القول إن الإسلام يموت إذا لم يرتبط بالعروبة. إن المسلمين غير العرب يعطون الإسلام أكثر ألقاً وتقدماً من غيرهم، تركيا مثالاً. عند العرب، الإسلام إما أن تكون سنياً أو شيعياً، ودعني لا أحدثك عن بحار الدماء التي سالت وتسيل بين هؤلاء في اليمن والعراق وسورية وغيرها. إنها المذابح الأكثر دموية في التاريخ التي سطّرها العرب في ما بينهم باسم الانتماء إلى نفس الدين، الإسلام. ومن يقتل الصوماليين؟ إسلام "حركة الشباب" أو إسلام "القاعدة" أو إسلام "الدولة".
إن وهم الانتماء إلى العروبة سيخرّب مستقبل الأجيال القادمة. لأنّها فكرة غير ضامنة، غير واقعيّة، لأننا فقدنا الهوية، وانتقصنا من اللّغة، ولم نعد نؤمن بأوطاننا، وأنكرنا وحدة رقعتنا الجغرافية بقتالنا التاريخي، والذي سوف لن ينتهي ما دمنا على هذا الحال. إنّ هذه المجموعة الإنسانية التي تسمّى العرب تحتاج اليوم إلى رباط واقعي يجمعهم، رباط قانوني لا جدال عليه، وليس أفضل من رباط المواطنة، الذي لا يفرّق بين أحد وآخر، في دولة يسودها القانون وتقودها الحرّية، حينها ستجد الأفكار الضّامنة المُلهمة طريقها إلينا.
لقد انتهى عصر الأيديولوجيا، كما انتهى عصر الأمنيات يا جدّي.