الصين... وماذا بعد؟

25 سبتمبر 2024
+ الخط -

يقول الزعيم الصيني دينغ شياو بنغ: "ليس مهما لون القط، المهم كم فأرا يستطيع أن يصطاد". لولا هذه الكلمات القليلة لما كانت الصين التي نراها اليوم، هي الصين التي يتحدّث عنها كلّ مثقفٍ وباحثٍ في هذا العالم، والتي تُشغل أروقة السياسة داخل أهم دولةٍ في هذا الكوكب، ونعني أميركا.

هذه الكلمات القليلة كانت بمثابة إعلانٍ رسميٍّ من قبل الزعيم الصيني آنف الذكر، بسقوط الاقتصاد الاشتراكي المركزي المغلق لصالح اقتصاد السوق، وذلك قبل نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي. بعد ذلك، بدأ التطبيق على أرض الواقع ورمى الصينيون "الماوية" في "سلّة مهملات الأيديولوجيا" بكلّ ما فيها من شعاراتٍ دوغمائيّة وانغلاقيّة. وبدأ تحسين العلاقات مع الجيران الكبار كالهند واليابان، وأصبحت العلاقات معهم قائمة على أساس المصالح المشتركة والتعاون الاقتصادي.

أمّا مع الغرب، وعلى رأسه أميركا، فقد تمّ التغاضي عن المسألة التايوانية، وعن الخلافاتِ الأيديولوجية العميقة بين الفريقين، لا بل إنّ الصين لم تقحم أنفها في أيّ منطقةِ صراعٍ تمسّ المصالح الأميركية.

وهذا كلّه، أدّى في أواخر السبعينيات، وتحديدًا في يناير/ كانون الثاني 1979 إلى إقامة علاقاتٍ دبلوماسيّة رسميّة بين الصين وأميركا بعد سنواتٍ من الاتصالاتِ واللقاءاتِ السريّة والعلنيّة، كانت قد بدأت عام 1971 في عهد ماو تسي تونغ نفسه.

جلّ ما تستطيع الصين أن تفعله، أن تؤمّن مجالها الحيوي بما يجعلها تحفظ أمنها القومي المباشر

إذن، انفتحت الصين على الغرب، وتدفقت مئات المليارات إلى الصين على شكلِ اسثماراتٍ أميركيّةٍ وألمانية وفرنسيّة وغيرها من الدول الغربية، مستفيدين من اتساع السوق الصيني ووفرة الأيدي العاملة وقلّة أجورها.

وضمن هذا السياق، حقّقت الصين نسب نمو مذهلة منذ بدئها الإصلاح الاقتصادي والانخراط في اقتصاد السوق، القائم على التنافسيّة والاستثمار ومبدأي العرض والطلب عام 1978. ففي عام 1988 مثلا، حقّقت الصين نسبة نمو بلغت 11.3 بالمائة، وفي عام 1992 حقّقت نسبة نمو بلغت 14.2 بالمائة وهكذا دواليك.

واليوم، نحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، نقف على أعتاب نصف قرن من بداية المعجزة التنمويّة الصينيّة، ونرى الصين تمتلك ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهي الرائدة رقم واحد في كثيرٍ من قطاعاتِ الصناعة، خاصة من حيث زخامة الإنتاج. ولا يجب أن ننسى أنّنا نتحدّث عن الصين؛ الدولة النووية وصاحبة العضوية الدائمة في مجلس الأمن.

ولكن هل كلّ هذا كاف حتى الآن لنقول إنّ الصين قادرة على تنحيّة أميركا عن عرشها، بل وحتى هزّها على أقل تقدير؟ الجواب لا. لقد بنت أميركا نموذجًا سيُدرَّس لمئاتِ السنين القادمة في كيفيّة تأمين الدول العظمى لسيطرتها العالمية، حيث يرى العالم منذ عقود أساطيل أميركا السبعة وهي تتمركّز في بحار العالم ومحيطاته، ورأى العالم أيضًا كيف أمّنت أميركا مصالحها في منطقة الشرق الأوسط، وهي أهم منطقة جيوسياسية في العالم، من خلال أسطوليها الخامس والسادس، ومن خلال قواعدها العسكريّة وعلاقاتها المتجذّرة مع قوى إقليميّة كبرى مثل مصر وتركيا والسعودية و"إسرائيل".

بنت أميركا نموذجاً سيدرّس لمئات السنين القادمة في كيفيّة تأمين الدول العظمى لسيطرتها العالمية

استراتيجيًا، جلّ ما تستطيع الصين أن تفعله هي أن تؤمّن مجالها الحيوي بما يجعلها تحفظ أمنها القومي المباشر. هذا فقط، ما يسمح به الوضع العالمي الناتج من حربين عالميتين وحرب باردة، انتهت بانتصار ساحق للديمقراطيّات الغربيّة.

إنّ الحضارة بأسرها، وخلال سبعة قرون مضت، تدورُ في كنف المركزيّة الغربيّة، بخيرها وشرّها، صالحها وطالحها، فما نهضت أمّة غير غربيّة إلا بعد أن انفتحت على الغرب وجارته سياسيًا وقانونيًا وعلميًا وصناعيًا واقتصاديًا. والصين نفسها تعتمد على منتجات الغرب، سواء في الرأسمالية التي وُلِدت غربيا، أو حتى طرق الصناعة والإنتاج.

ماذا قدّمت الصين في العلوم الإنسانيّة والتطبيقيّة؟ ماذا قدّمت في الفنون والآداب؟ ماذا تملك لكي تسحر الشاب الطموح في العالم الثالث، والذي يطمح للهجرة والإبداع؟ هل لديها إمبراطورية فنيّة كهوليوود؟ هل لديها ماكينة إعلامية كتلك الموجودة في أميركا؟ هل لديها مشاهير في عالم السينما والغناء والأزياء والصحافة والأعمال والرياضة، يستطيعون مخاطبة المراهقين والشباب؟

نعود إلى الاستراتيجيا والجيوبوليتيك، لنرى أنّ الصين اليوم مُحاطة في ساحلها الشرقي المطلّ على المحيط الهادئ بـ 293 قاعدة عسكرية أميركية من اليابان وكوريا الجنوبية شمالًا، إلى أستراليا جنوبًا، إذ يتركّز في اليابان الأسطول الأميركي السابع، وهو أهم أساطيل أميركا وأكبرها، والمتكفِّل بتغطيّة المحيطين الهادئ والهندي وتأمين المصالح الأميركية هناك.

تسعى الصين بقدر إمكاناتها والظروف المواتية لها لأن تخرج من "السجن الاستراتيجي الأميركي" حولها

تسعى الصين بقدر إمكاناتها والظروف المواتية لها لأن تخرج من هذا "السجن الاستراتيجي الأميركي" حولها، ولهذا أنشأت أوّل قاعدة عسكريّة لها في جيبوتي عام 2017، وركّزت فيها قطعا بحريّة قليلة لتأمين المصالح، فقط لتتجنّب استثارة أميركا وحلفائها، وقامت بإنشاء ميناء هامبانتونا في سريلانكا، مع حقِّ انتفاع مدّته 99 عاما، واستثمرت مبلغ 659 مليون دولار ببناء ميناء باتا في غينيا الاستوائية، ناهيك عن قاعدة ريام، التي لم تكتمل بعد في كمبوديا، وكلُّ هذا يمنح الصين مزايا استخباراتيّة وجيوسياسيّة ويقلّص الهوّة قليلًا مع التفوّق الأميركي الكاسح. ويبقى السؤال: ماذا بعد؟ 

تقف أميركا في المرصاد ضدّ الطموح الصيني، إذ أعرب وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، عام 2022 في منتدى ريفان للدفاع الوطني في كاليفورنيا، عن طموحات بكين في تشكيلِ نظامٍ عالمي جديد يخدم مصالحها بالمقام الأوّل، وأكّد أنّ واشنطن "لن تسمح بذلك". 

قد يكون شكل عالمنا الآن شبيهًا بشكل العالم قبيل الحرب العالمية الأولى، وما عليك إلا أن تُزيل بريطانيا العظمى وتضع مكانها أميركا، وتزيل ألمانيا القيصرية وتضع مكانها الصين، وهذا تصوّر لا يحيط بكلّ تفاصيل وتعقيد المشهد الحالي بالطبع.

ختامًا، من حقِّ أيّ أمّةٍ أن تسعى نحو الزعامة والريادة بكلِّ ما تملك من إمكانيّات وظروف مواتية لخدمة أهدافها ومصالحها، ولكن هذه الأحلام سرعان ما تصطدم بصخرةِ الواقع الذي يقول لنا إنّه ليس من السهل أن تزعزع إرث أميركا الهائل، والمتمثّل بخروجها قويّة منتصرةً من الحرب العالميّة الثانية، ثمّ الحرب الباردة، ناهيك عن الشق الحضاري الذي تحدّثت عنه خلال هذه التدوينة. وقد يأتي يوم تُنافس فيه الصين أميركا من الناحية الجيوبوليتيكية كما فعل الروس في الحرب الباردة، وهو يوم بعيد جدًّا، ولكن من الناحيّة الحضارية، فهيهات أن تستطيع الصين أو غيرها الخروج من عباءة الغرب.

صيدلاني مهتم بقضايا عربية وعالمية.
رافع العرواني
صيدلاني أردني، وقارئ مهتم بالسياسة والتاريخ والثقافة.