الصحافة الثقافية المغربية تفقد حكيمها

10 ديسمبر 2020
+ الخط -

بوفاة الزميل حكيم عنكر بفيروس كورونا تفقد الصحافة الثقافية المغربية والعربية واحداً من ألطف وأبهى كتابها. وأفتقد بموته إنساناً طالما اعتبرته نموذجاً في ممارسة مهنة الصحافة بنبل واجتهاد، محافظا في معتركها على الإنسان المتواضع، والقارئ النهم. كان حظي عظيما لما صادفته في المقهى في زنقة جيرا بحي المعاريف بالدار البيضاء.

سكنت في الحي سنة 2012. أخبرني الكثير من الزملاء عن الأطلال الثقافية التي كانت تؤثث المنطقة في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. بين قاعات السينما الثلاث التي كانت في نفس الشارع، وأقفلت تباعا، وبيت الكاتب المغربي محمد الزفزاف الذي كان محجاً للصحافيين والمبدعين، والمطاعم. هنا كان مركز مدينة الدار البيضاء لعقود سابقة، لم أتعرف من كل مؤسسات ذلك الزمن الجميل سوى على مطعم "لابريس" الذي كان يجمع مسامرات الشعراء والصحافيين والعاملين في الثقافة. وصادفت في المقهى إنسان علم، كثف الثقافة وحرس نفس المكان، هو حكيم: الشاعر، شكل الرجل صلة وصل، بين ذلك التاريخ والحاضر. يحدثك عن المدينة والشارع والشعر والنضال والأطلال والمستقبل. يحدثك عن كل ذلك والابتسامة ترافقه.

لم أصدق عيني أول الأمر لما رأيته من بعيد يجلس في زاوية مشمسة من المقهى الذي اعتدت ارتياده، شككت في أن يكون نفسه الرجل الذي كنت أتابع مقالاته في مختلف التجارب الصحافية التي مر عبرها. المؤشر الذي جعلني أتأكد من أنه مرادي كان عدد الجرائد والكتب الذي افترش أمامه، على طاولة الفطور. يقرأ من هذا ويكتب في ذلك. قصدته على حياء، وإذا بابتسامته تُشرق بكرم، "مرحباً وألف مرحبا".

بعد ذلك اليوم كنت جلست تكراراً قرب طاولة حكيم، متشوقا ًإلى لقياه مرة جديدة. لكن عوض ذلك استمرت متابعتي له كقارئ عبر مقالاته، والتواصل بيننا استمر عبر موقع "فيسبوك".

غادرنا كلانا الحي سنة 2014، لكل وجهة هو موليها. وإذ غادر إلى الدوحة ليشارك في تجربة انطلاق "العربي الجديد" كواحد من مؤسسيها، كتبت له أهنئه بعمله الجديد، فأجابني ممازحا: "التجربة على خط الانطلاق… أنت تعرف الانطلاقات الأولى مثل زوابع الحب الأول… تصمد أو تطير". هذا جواب نموذج على النفس المميز لحكيم عنكر. كان يستطيع أن يولد صورة شعرية من كل تأمل. ثم يقذفها في وجهك وأنت تستطيع أن تتخيل أنه يبتسم ابتسامة واسعة لما كتبها.

سنة 2017 سألته عن الصحافة والغربة عن وطننا والحي، أخبرني عن أنه ينوي العودة لاحقًا، وأنه يعتبر خروجه من المغرب خروجا مؤقتاً. قال: "ليست هي المرة الأولى التي أجرب فيها العمل الصحافي من خارج المغرب، بل هي المرة الثانية. المرة الأولى كانت قبل أكثر من عشر سنوات في الإمارات، وحالياً قبل عامين في قطر.

توفي العزيز حكيم بفيروس كورونا، وهو في عز عطائه قارئاً وكاتباً وشاعراً

 

ربما يعود الأمر، بالنسبة لي شخصيا إلى مناكفة السأم وتغيير جو، وبدرجة أكبر اقتصاديا. أنت تعرف أن الأجور متدنية في المغرب، وهي لا تؤمن حياة كريمة. ومع ذلك أعتقد أنَّ الزراعة في حديقة بيتك أفضل، وأنه لا بد من العودة إلى البيت الأول لممارسة هذه المهنة الملعونة، وربما الانصراف عنها، بعد أن أغرقت السوق بالحابل والنابل. وكما في تجربتي الأولى والثانية في الصحافة العربية المكتوبة في الخليج لم تواجهني مشاكل كبيرة، مهنياً على وجه التحديد، في المرة الأولى كنت محرراً ثم مسؤولاً في القسم الثقافي، وفي المرة الثانية أشتغل سكرتير تحرير. عدا مشاكل المهنة اليومية لا شيء يذكر. وأنا من أشد الزملاء تحمُّساً إلى أنه لا بد من صحافة مغربية تحتوي كفاءاتها. الآن مع التوجه نحو العالم الرقمي تصبح الخرائط ضيقة والعالم أكبر أمام هذه المهنة، التي تجاوزت الحدود والأوطان".

واذ كنت أحاول أن أنجز بحثاً عن أشكال الرقابة على الصحافة في بلدنا، راسلته لطلب رأيه، فرد: "الرقابة على الإعلام موجودة في أعتى الديمقراطيات، وحتى على وسائل الإعلام البديلة.. لكن فضاءات ممارسة المهنة مختلفة من بلد إلى آخر. فحين يكون قانون ممارسة المهنة منصفا فأنت لا تخشى أن تقف غدا أمام القضاء لأن الصحافي في النهاية ليس فوق القانون. وحين يكون زمن الوصول إلى المعلومة والحق في الوصول إليها مفتوحا أمام الجميع فإن المهنة ستكون بخير، ولن تخشى لا من الرقيب ولا من غيره.. وبالتالي فالرقابة لو تأملناها من هذا المنظور، هي كل القوانين المؤطرة أو الأعراف الزاجرة التي تحسن منها الممارسة اليومية للمهنة وفعالية الجسم الإعلامي. فجسم إعلامي فاقد للحركة لا تنظر منه أن يسير بسرعة. فعلى قدرة إحساسك بمواطنتك تكون صحافتك".

قبل أن يصير صديقا، شكل حكيم الصحافي نموذجا لي. وهو بيقين واحد من الصحافيين الذين شجعوني على اختيار هذه المهنة. كنت متابعاً لمقالاته في جريدة "المساء" المغربية والتجارب التي خاض قبلها، وكان يكتب عن الكتب التي يقرأ وعن الناس والتجارب التي يصادف في مختلف أسفاره. كلماته البسيطة وطريقة كتابته السلسة وغير المتكلفة كانت دائماً نموذجاً تطلعت إليه. وحين تعرفت عليه وجدت فعلاً أنها تشبه شخصه; حكيم ليس من الناس الذين يتطلبون منك الجهد لتراعي صداقتهم، ستجده دائماً كريماً في حديثه وسؤاله ومتابعته وتشجيعه وإنجازه رغم الانشغالات.

توفي العزيز حكيم بفيروس كورونا، وهو في عز عطائه قارئاً وكاتباً وشاعراً. كان الحديث عن كورونا آخر حديث بيننا، إذ طلبت منه أن يزورني، فأجاب بكرم: "ها أنت ترى، الوباء اللعين يجعلنا نعتصم بالبيوت… إن شاء الله بعد الانفراجة". لكن الوباء اللعين اختطفه.

يا لحر الألم في قلبي لفقدك يا صاحبي!

حمزة محفوظ/ فيسبوك
حمزة محفوظ
صحافي وباحث من المغرب، مقيم في مارسيليا جنوب فرنسا. مهتم بحرية الصحافة وقضايا الهجرة والتعبيرات الثقافية الموازية للربيع العربي.