"الشاب حسني" والنّوم في سرير أغنية مقطُوعة الرّأس

30 سبتمبر 2023
+ الخط -

تستدرجُك الموسيقى مثلما يستدرجك المُحامي الشّاطر داخل قاعة المُرافعات، ينهار تماسكك وتجدُ نفسك تعترفُ بكلّ خباياك، الموسيقى أيضاً يمكنها أن تفضحك، أو يمكنها أن تصالحك مع ضعفك، مع البكاء، فهي الأكثر اختراقاً لذواتنا من كلّ الفنون الأخرى، لأنّ كل تلك الفنون تخاطب الظلال فقط، بينما تُخاطب الموسيقى الجوهر مثلما عرفها ذات يوم شوبنهاور، لهذا كان من السّهل تعذيب ملايين الأشخاص دُفعة واحدة بالقيام بقتل مغنيهم المُفضّل، من الطبيعي أن يعذّب الإنسان بما يُحب، الأشياء التّي تُحبها، هي نقطة ضُعفك، والذين يريدون إحزانك، وكسرك، سيطاردُون قوائم ما تحبّه ليضعوا يديك خلف ظهرك، سيختارون لك  -أنت الّذي ظننت أنّك نجوت من رصاصة طائشة، أو سكين حادة- موتاً عاطفياً يتطاولُ كخيط العسل الذي نجربُ مدّه حينما نود التأكد من أنه ليس مغشوشاً، إذ يقطّعون أحشاءك بإطفاء أغانيك المفضّلة القادمة. ففي 29 من شهر سبتمبر تعُود إلينا تلك الجريمة كحزام متفجّر لتنفجر وسط حياتنا وتتطاير منها أشلاء الأغنيات، في هذا اليوم حينما اغتيل "الشاب حسني" وسط الشارع كان الأمر أشبه بمن يرفع أصابعك عن أذنك لتستمع إلى المزيد من المجازر العابرة للمدن، إذ شكلت أغانيه في تلك الفترة مواساة وتحدياً للكثيرين، كانوا يضعونها داخل آذانهم في وهران وقسنطينة والجلفة وحتى في تونس وليبيا والمغرب، بينما يتم ذبح الكثيرين في جيجل والبليدة وسكيكدة وغيرها من المدن، كنت تستمع هنا إلى أغنية "ما زال souvenir عندي" بينما يتدحرج رأس هنالك في الظلام بين البيوت المليئة بالتّرصد.

يرثُ الناس أنوف آبائهم، وألوان عيُونهم، وأمراضهم، يرثُون أراضيهم ورقصاتهم وحساباتهم البنكية، لكن ماذا عن الذين ترثهم أغنية؟
ارتبط "حسني" بالذّاكرة العاطفيّة المؤلمة، إنّها أشبه بتعزية تذكرُني بما أطلقه كارل ماركس عن الارتباط الرّوحي الذي جمع بين الموسيقى والشّعب الألماني في مرحلة شديدة الحزن، سمّاه "البؤس الألماني"، هذه الموسيقى لها مقدرة خرافيّة على استدراج الأفراد إلى زمان محدّد حيث تتسلّط عليهم بكلّ أحداثها، فجأة يجدُون أنفسهم يعبرُون التّسعينيات وفي جيوبهم المثقوبة خبّأوا حياتهم المهدُورة، وداخل أعينهم أغلقوا أشرعتهم واستسلموا لدمُوعهم، العِناد لم يعد يكفيهم وها هم ينهزمون أمام أغنية، قد لا يكونون قد أحبّوها وقتها، لكنّها تمتلكُ جزءاً من حياتهم اليوم، صورتهم فيها، وجودهم فيها، ومن يحبُونهم أيضاً فيها، فالموسيقى صوت له زمن، وصمت له زمن، وهي تملكُ أيضاً سلطة الاستثارة العاطفية التي تحدّث عنها المؤلف الموسيقي، والفيلسوف، وأحد واضعي نظريّة الجمال في الموسيقى، ليونارد ماير (Leonard B. Meyer) من خلال كتابه المنشور بالخمسينيات من القرن الفائت "العاطفة والمعنى في الموسيقى" (Emotion and meaning in music)، والذي استخدم تقنيات من علم النّفس، نظرية المعلومات، والألفة المسبقة مع أنواع محددة من الموسيقى، لتفسير تلك العلاقة.

 "طال غيابك يا غزالي" جملة واحدة جعلت الكلّ يتماوج، الجمهور سنة 1993 في ملعب 5 جويلية هو نفسه الجُمهور في الملعب الأولمبي بوهران وخلف الشاشات سنة 2022 في افتتاح دورة الألعاب المتوسطية، استدعاء وجودي، غياب حسني الفيزيائي لم يشكلّ فارقاً، لأنّه كان موجوداً فعليّاً في الذاكرة، ومن خلال ذلك الوُجود انعكس المشهد نفسهُ فور انطلاق صافرة الموسيقى في طبقات النفس، فالحفل ذلك يعيشُ داخل حفلاتنا التي لم نحضُرها بعد، إنّنا رهائن الموسيقى، وهذا ما يفسّره ليوناردو ماير عن طريق آلية ترتبط بالذاكرة العرضية الخاصة بنا (Episodic Memory)، حيث تشير الأخيرة إلى استحضار موسيقى ما لذكرى سعيدة أو حزينة، لكن المثير للاهتمام هنا هو مدى قدرة الموسيقى على استحضار تلك الذكريات بكامل المشاعر المتعلّقة بها، بل إن بعض التجارب تقترح أن الأفراد الذين اقترنت الموسيقى بالكثير من ذكرياتهم عن فترة الطفولة سيميلون بشكل طبيعي إلى العمل في المجال الموسيقي حينما يكبرُون، فكم من شخص أصبح مغنّي الراي لأجل "راني خليتهالك أمانة؟".

عض التجارب تقترح أن الأفراد الذين اقترنت الموسيقى بالكثير من ذكرياتهم عن فترة الطفولة سوف يميلون بشكل طبيعي إلى العمل في المجال الموسيقي حينما يكبرُون


"طال غيابك يا غزالي" لها وجودها إذن، صنعت الموسيقى المكان والزمان والشّخصيات، فقد ارتبطت في ذاكرتي بشخص أجهله، عاشقٌ على الأغلب يحضر بقوّة كلّما سمعتها بعد ما يتعلق بحياة حسني "الآخر"، يجلسُ على أدراج مدخل العمارة، يكسر رقبته قليلاً نحو الخلف ليتلاصق رأسه بالجدار حيث يتقوس عموده الفقريّ، يمدد قدماً ويثني أخرى إلى جواره "بوسط كاسيت" تنبعثُ منه هذه الأغنية تحديداً، عيناه مغلقتين داخل كينونته، إنه شخص ملقى لعذاب الفراق، وللموسيقى، ملقى داخل ذاته ومنقطع تماماً عن الوجود الذي هو نحن لأنه متصل داخل وجود من يحب، بينما أعبرُ الشارع عائدة إلى البيت من المدرسة وهذا ما يسمى تحديداً التقييم المشروط.
كل مقطوعة موسيقية تستمع لها إذن، كانت "الهواء المارّ على الوتر" ليوهان سباستيان باخ (Air On G String)، سوانتا بيانو رقم 14 (سوناتا الشتاء) لبيتهوفين، أو مدخل آلة الأورغ في أغنية "طال غيابك" ليست مجرد نغمات جميلة فحسب، إنما هو تركيبة معقدة تجمع ما بين تاريخك الطويل على هذا الكوكب، ذكرياتك الحلوة والمرة، وعيك، وتطور إدراكك كإنسان قادر على التقاط اللغة، تجمع بين ما يحمله هذا المخ من تعقيد بيولوجي، وتلك النفس من أعاجيب سلوكية.

لماذا الشاب حسني تحديداً؟

دائماً ما تستوقفني فكرتي هذه: "بدل أن يبكي الرّجال، يطيلُون لحاهم"، عاش الرّجل الجزائريّ معادياً لفكرة البكاء، استقامة رجُولته قهرت في داخله فِكرة أن يبدو ضعيفاً، وخصوصاً في الحبّ، وحتّى في الجنازات، لقد نسي أنّه مجرد إنسان، وضعفه شأن طبيعيّ، وعليه حينما يحزن أن يبكي بدل أن يُطيل لحيته، قدّم الشّاب حسني ضُعفه على المسارح حينما حوّله إلى فنّ، أخذت أغانيه المطارق وحطّمت الخجل في الجزائري الذي ظل عالقاً داخل البُطولات والشّجاعة، الجزائريّ الذّي لا يقول أحبك مباشرة، وقد يفعل أشياء كثيرة تدلّ على تلك الجُملة، لكنّه لا يقولها، أغانيه شجّعت الشباب على الاعتراف بحبهم قولاً وفعلاً، دفعتهم إلى البُكاء عاطفياً مرات نادرة في السّاحات العامة، الأغنية التي وقفت معهم وعالجتهم حينما تخلّى عنهم الجميع، واليوم، ذكرى اغتياله، ما هي إلّا سرير عليهم العودة للنّوم داخله مع كل تلك الأغنيات مقطُوعة الرأس ما دام الإنسان سيظلّ تساؤلاً وجودياً بلا جواب محدد.