"السيرتان" أو جمع بصيغة المفرد
يمكن القول إنّ كتاب "السيرتان، سيرة الطفولة والصبا"، للشاعر والروائي والكاتب السوري الكبير سليم بركات، الصادر عن دار الجمل، هو كتاب "جمع بصيغة المفرد" في تحوير لقول أدونيس "مفرد بصيغ الجمع"، وهو أحد عناوين الأخير.
الكتاب هو سيرة الشاعر وسيرة شخوص وأمكنة وأزمنة. وهو أيضاً، سيرتنا، نستعيدها طازجة بعد سنوات طويلة. الطفولة نفسها، حكايات العنف والموت، الجوع والخوف والرعب، حيث "لم يكن لنا نحن بذور الشمال إلا أن نخرج من الشقوق مستسلمين لعاصفة الرعب"، كما جاء في الكتاب.
حكايات أبطالها "كيفور" قاهر المسلحين الستة، "كنعان" الذي يدخل السينما مجاناً دون دعوة، "شروان" العتّال الذي يتقاضى راحته من كلّ التجار... هم النماذج المثلى. أدواتها: سلاسل حديدية، سكاكين، كرابيج، خناجر.
لسيرته أدوات، ولي أدواتي أيضاً:
الفَأْسُ غيرُ مناسِبةٍ.
المِسْحَاةُ بِيَدِهَا الطَّوِيلَة أَيْضًا.
المِبْرَدُ: (لاَ يُوجَدُ هُنَاكَ مَا يُمْكِنُ تَرْمِيمُه)
التَّآكُل الكِيمْيَائِي
القطع بالأَمْوَاجِ فَوْقَ الصَّوْتِيَّة
القطع بِالمَاءِ
القطع بِالنِّيتْرُوجِين السَّائِلِ
....
أَسْمَاء آلاتٍ
يَحْمِلُهَا أَطْفَالُ الرِّيحِ أَبْنَاء السَّادِسَة إِلَى المَدْرَسَة.
هكذا، وأنت تقرأ الكتاب، تتحرّك الذاكرة، تستعيد سِيَر مشابهة لأكابر آخرين، أحدهم محمد شكري الكاتب المغربي الراحل (هل تتذكر دموعك وأنت تقرأ "الخبز الحافي"؟ هل تتذكر صراخك في وجه العالم؟ صيحتك "يا عار القرن العشرين". ها أنت توشك أن تعيدها، تلك الصرخة الحارة). تجدك بين السطور وتستعيد سيرتك بكلّ تفاصيلها، تفاصيل حياة الأطفال، أطفال الهامش والأطراف، عراك الأطفال، صيد العصافير، سرقة البيض والغلال، حرق البيادر، حرق القطط حيّة، هدم الأعشاش على الأشجار وبين الحيطان، البحث عن بيض الحجل في الحقول، اللهو بالحيوانات الضعيفة، طيور مكسورة الجناح أو حديثة الولادة، لأننا "نحن نحب الأشياء قبل أن تكتمل".
تلتف دوائر العنف والسلطة والأسطورة حول الرقاب، تلتهم سيرة الطفولة وسيرة الصبا. وما الصبا إلا الطفولة خارج دائرة العائلة والقرية
تستعيد لذة الاكتشاف، مشاهد المسارح القديمة، تلذّذ صراع الديكة والأكباش، حمار العائلة الخدوم، الجوع حدَّ أكل طين الجدران والحيوانات النافقة، كما يذكر صاحبنا: "أذكر أكل الفحم وشرب البنزين، وفي أحسن الحالات خبز الشعير البائت، تلك الصخرة العضوية، العصية على الأسنان، أسنان الأطفال"... موسم الحصاد، المنجل، الدرّاسات، البيدر، المذراة، التبن والقمح، طقس التذرية عند هبوب الريح المناسبة...
تستعيد مشاهد وشخوص: "رشاد الأحول" بين الطعن وتركه للموت البطيء، "اوسمانو" غريب الأطوار، "جاجان" غريق النهر، نهر الخابور، الجبل والسهل، آشوريون، أكراد ويزيديون، طقوس الأعراس، ثلوج الشتاء وهواجر الصيف المحرقة (قطبان لجحيم واحد)، حكايا النساء والرجال، أحاديث الفحولة، سيوف المجتمع البتارة ممدودة على الرقاب، أساطير وحكايا المدن والقرى والشخوص، بريفا وموزان، مزوغة، المالح، الصخيرة، هرم شيخو، تستور، القامشلي، عامودا. "بوغي" ونهايته الغامضة، "عابو" الأعمى العارف بكلّ المسالك ومروّض الحشرات والأفاعي، "شكرو" الباحث عن الولائم، السائح بين المناسبات، "حميدو" المهاجر إلى ليببا، قتيل الحرب الليبية التشادية حسب بعض الروايات، "سيدي المزوغي"، "سيدي مسعود"، أولياء صالحون، (قبلتنا ومكّتنا، "الزردة" مهرجان الأطراف، أذكر طعم الحلوى ورائحة البخور، ما تبقى من أموال يضيّعها التجار بعد نهاية المهرجان، ولقيا المفتاح. لقياي بعد نهاية أحد المهرجانات. المفتاح الأبيض اللامع. تأويلاته التي لا تنتهي). بورقيبة، محمد علي كلاي. أي نعم، إنه الثنائي الوحيد القادر على القفز بين ضفتي النهر، نهر مجردة. المعلمون، أهل جنة، قديسون وملائكة، أو هكذا يحدّثنا خيالنا.
هي دوائر العنف والسلطة والأسطورة حول الرقاب لا تنتهي، تلتهم سيرة الطفولة وسيرة الصبا. وما الصبا إلا الطفولة خارج دائرة العائلة والقرية.
كتاب "السيرتان"... سيرة الإنسان، كائن بشري متقلّب بين رغباته كالريح، حيث لا تنفع الصلاة ولا الحج، ولا العقل ولا التصوّف
هنا الدوائر نفسها، تزداد اتساعاً، دائرة الدولة، الدولة الأخطبوط، في الشخوص، في المدرسة والمستشفى، في اللغة والفعل، في الحكومات المتعاقبة. الحلال والحرام، الجائز والممنوع، الخوف مضاعف، الرعب أيضاً. الرعب الذي يحوِّل المدرسة إلى كابوس. الشخوص الأكثر شراسة، الشرطة والشبيحة والأزلام، إنها غابة الغابات.
الصبا أو مرحلة الانتباه الأشدّ لتحوّلات الجسد، مرحلة الاكتشافات، والتطلّع إلى الخفايا في الصور، ومن ثقوب الأبواب والنوافذ. السيرة هنا سير لا تُحصى، خيّرون وأشرار، صغار وكبار، نساء ورجال، عملة وتجار، أئمة ومعلمون، مجرمون ومجانين، سيرة الإنسان، كائن بشري متقلّب بين رغباته كالريح، حيث لا تنفع الصلاة ولا الحج، ولا العقل ولا التصوّف. سيرة القرية والمدينة والبلاد والعالم، كيف لا والإنسان هو الإنسان. التقاطعات نفسها. الزمان والمكان مجرّد توابل لتغيير النكهة، نكهة الحياة والسيرة لا غير.
هي الطفولة منذورة للعيش والتعلّم للقادم. مع "السيرتان"، أسألني أين العيش؟ أين التعلّم؟ هل هي معارف أم عاهات وجراحات غائرة؟ بل هي أسلحة فاسدة لمواجهة المستقبل، أرواح وعقول معطوبة. كم سينجو من سفينة نوح المثقوبة، غير سليم؟ وهل حقاً نجا سليم، أم هي نجاة شاهد جريح لا أكثر؟
"السيرتان" سيرة طفولة لم توجد، "كنّا أطفالاً بلا طفولة" يقول سليم. أقولها سليم (وهو سليم الكبير) هكذا دون مقدمات؟ حقاً لم نلتق ولم نتصادق، لكنَّا بطلان في كتاب واحد، أو هكذا خُيِّل لي.