السوريات ودور رعاية المسنين
قدمت الرعاية الطبية والوعي الصحي خيارات مستجدة في حياة السوريات، عدا التقدم البارز في العمر، والذي قد يؤمن وصول النساء إلى مشارف الثمانينات وأكثر وهن بحالة صحية وذهنية جيدة. لقد تغير سن الشيخوخة وتغيرت ملامحها وتفاصيلها، يبدو هذا واضحاً جداً، لكنه في الوقت عينه تحول إلى مشكلة إنسانية كبيرة ومؤلمة.
يزور نضال والدة صديقه المهاجر في السويد مرة أسبوعياً، السيدة تقيم في دار المسنين منذ ثلاث سنوات وبإرادتها الخالصة. تنتظره بلهفة شديدة وكأنه ابنها الوحيد، تطلب منه إحضار أغراض خاصة لها طابع فردي واستمتاعي، كأن تطلب منه بوري بوظة بطعم الشوكولا والليمون، لا بوظة في دار المسنين، تغلق باب الغرفة، تجلس على كرسيها، تحدق في النافذة المطلة على الحارة، وتبدأ بأكل البوظة وكأنها على شرفة أحد المطاعم.
في العام الماضي، قدم وحيدها من السويد لزيارتها، طلبت إذناً خاصاً وبقيت في بيتها مع ابنها مدة شهر كامل، تقول: حتى الجيران أغلقوا بيوتهم وهاجروا، أنا وعائلتان أخريان في كامل البناء، وباقي البيوت مغلقة، والمشكلة ليست بعدم وجود مأوى أو منزل خاص بي ولا بانعدام القدرة الجسدية أو المادية، المشكلة الكبيرة هي في عجزي عن تقديم الخدمات الضرورية بنفسي، مثلا تعبئة خزان المازوت وتنظيف خزان المياه وترحيل السجاد للتنظيف كلها تفاصيل ينبغي علي إحضار من يقوم بها، وهذا أمر طبيعي.
القضية الأكثر إلحاحا هي قلة أعداد دور الإيواء ومراكز الرعاية، واستحالة توفر مقاعد شاغرة تؤمن العيش الكريم للنساء
لكني بحاجة إلى أكثر من ذلك، إلى شخص موثوق ليتأكد من سلامة تعبئة المازوت بعد أن قام أحد الباعة بادعاء أنه أتم عملية التعبئة بينما قام فعلياً بتعبئة الخزان بالماء المخلوط مع القليل من المازوت، لشخص موثوقٍ أو صاحب ضمير ليغلق باب خزان المياه بعد تنظيفه، كي لا تقع قطة عطشة فيه كما حدث في العام الماضي.
الأزمة الفعليّة هي في انعدام الموثوقيّة في تقديم الخدمات، وخاصة المقيمات المنزليات، تقول لويزا، التي اضطرت لإحضار ممرضة خاصة لتشرف عليها وتقيم معها مدة شهرين بعد قيامها بعملية تغيير مفصل الركبة، إن تلك الممرضة كانت تسرق نقوداً وأغراضاً ثمينة من بيت لويزا ولكن بالتدريج بشكل لا تستطيع لويزا كشفه إلا عندما تحتاج فعلياً للغرض المسروق، أو عندما تقوم بإحصاء ما بين يديها من أموال! وعندما حاولت لويزا اللجوء إلى القضاء، قامت الممرضة باتهامها بالخرف والجنون.
تعاني سيدات كثيرات متقدمات في العمر من عدم توفر مقيمات خبيرات بالرعاية الصحية والمنزلية لطالبات هذه الخدمة، خاصة أن غالبية المقيمات المنزليات هنّ نساء تقطعت بهن السبل ويبحثن عن مأوى أولاً، وعن عائد مادي ثانياً، وخبرتهن معدومة في المجال الصحي والرعائي، والأهم أن ثقافتهن الاجتماعية في عادات النظافة والمأكل والطبيعة الشخصية تختلف تماماً عن النساء طالبات الخدمة، وفي ظل غياب اختصاص تتدرب عليه المقيمات، أو غياب مؤسسات تلتزم بتقديم مقيمات اختصاصيات مراقبات بشكل مهني من قبل المؤسسة التي يتعاقدن معها، غالباً ما تتحول الحاجة المتبادلة إلى عقد إذعان من قبل السيدة والمقيمة، فكل واحدة منهن تشعر بأنها متحكمٌ بها ومجبرة على المراعاة كل منهما حسب حاجتها.
إن القضية الأكثر إلحاحاً هي قلة أعداد دور الإيواء ومراكز الرعاية، واستحالة توفر مقاعد شاغرة تؤمن العيش الكريم للنساء الراغبات سنوياً، عدا النفقات الطبية والاحتياجات والرغبات الخاصة للمقيمات.
تحوّل التقدم في العمر حتى في الحالات الصحية المستقرة والواعية والقادرة على إعالة نفسها، جسدياً وعقلياً وفكرياً، إلى عبء كبير على النساء الوحيدات المتقدمات في العمر، يرمي بظلاله على النساء وعلى أبنائهن وذويهن وعلى المجتمع برمته.
ستراسبورغ 12 يوليو/تموز 2024