الزلزال وظاهرة تآخي السوريين

04 مارس 2023
+ الخط -

لقد كانت للزلزال السوري التركي بوصفه كارثة طبيعية عامة نتائج سياسية كبرى وواسعة وعلى عدّة مستويات، إذ كثرت التحاليل والقراءات والمحاولات، وقد كانت مستفيضة بحيث إنها غطت فعلاً أغلب جوانبه ونتائجه الرئيسية. وأكثر التحاليل والقراءات ركزت على نتائجه السياسية الخارجية والنتائج الإقليمية وحتى الدولية. فكان السؤال: أي مستجدات يفرزها الزلزال الكبير بوصفه حدثاً طبيعياً على العلاقات السياسية لأنظمة المنطقة؟ وموضوع العقوبات الدولية؟ ومصير الانتخابات التركية؟ والعلاقات الخليجية السورية؟ وإلى آخره، من الطروحات والقراءات التي تحاول التنبؤ: كيف يمكن لحدث طبيعي أن يفرز ويقرّر نتائج سياسية محضة؟ وكيف يمكن له أن يُترجم على شكل صيغ ومعادلات جديدة من العلاقات السياسية في المنطقة؟

إنّ مقالي هذا يندرج في نفس الإطار، ولكن من زاوية أخرى، إذ رأيت أنها لم تغطّ بشكل كاف بعد، أو أنها أُخذت عرضاً في ظلّ التغطيات والقراءات المتعدّدة للحدث الطبيعي السياسي السوري. إنها ظاهرة تآخي السوريين، فهذه الظاهرة التي يمكن اعتبارها نتيجة مباشرة من نتائج الزلزال الذي ضرب المنطقة، تأخذ وجهين وتحتمل التحليل من جانبين مترابطين أشدّ الترابط، الجانب الاجتماعي من جهة والجانب السياسي من جهة أخرى والمرتبط مع الاجتماعي أشدّ الارتباط. 

ففي هذا المقال يتم طرح رؤيا حول تأثير الزلزال المباشر على الحياة السياسية الداخلية السورية بوصفها كذلك، وليس بوصفها مسألة دولية أو إقليمية كما تمّ النظر إلى القضية السورية عموماً خلال العقد المنصرم بأكمله. نحن أمام حدث سوري، أفلا يستحق قراءة سورية على مستوى المحتوى والتحليل؟

بمجرد استفاقة السوريين فجر 6 فبراير/ شباط على الكارثة التي ألمت بهم، وبعد وعي لحجم وأبعاد الضرر والخسائر المهوّلة التي أصابتهم، بدأ مباشرة عمل محموم، والحق يقال، عمل ذو طابع أهلي بحت وإغاثي وإنساني وإسعافي شامل. لقد أظهر الشارع السوري لهفة كبيرة، فبدأت حالة من التآخي والتعاضد والتعاون في محاولة لتخفيف المصاب، حيث فتحت البيوت ووزعت الملابس وأقيمت المطابخ الشعبية عدا عن المشاركات الشعبية الشاملة في رفع الأنقاض، وحتى ظهرت اندفاعة عامة نحو تبني الأطفال المنكوبين ورعايتهم، أي تحوّل الوضع إلى استفاقة شعبية وأهلية إنسانية عارمة.

شمّر الشارع السوري عن ساعديه وأخرج أبناءه من تحت الأنقاض وبنى خيمته من تحت الركام العظيم، وقال سنحيا!

 وعلى مستوى القرى والحارات، على مستوى الأزقة والأحياء الشعبية، خرج الآلاف، حشوداً وجموعاً، مع هاجس واحد ودافع واحد: كيف نساعد؟ وكيف نضمّد الجراح؟ وكيف نوقف نزف الدم السوري المتعب؟ وبتعاطف صادق ووجدانية عالية، كان التآخي السوري إثر الزلزال الكبير ظاهرة اجتماعية كبرى جارفة مثلت استجابة شعبية غير مألوفة خلال العقد الماضي نظرا للانقسامات الحادة التي عاشها هذا الشارع، والتي خمدت أي استفاقة مماثلة من حيث النوع والحجم والمستوى، على الرغم من كثرة المآسي والكوارث التي كانت قد ألمت به.

لإتمام قراءة ظاهرة التآخي السوري، لا بد من الإشارة إلى نقطة حاسمة الدلالة والأهمية، ونعني بها أنّ مجمل الحراك الأهلي والمجتمعي السوري، وخاصة في اندفاعته الأولى (والتي كانت الأكثر أهمية في تخفيف المصاب العام وتخفيف الأذى الأكبر للكارثة) لم يكن، فقط، بمعزل عن الجهات الرسمية والحكومية والسلطات (في جميع المناطق موالاة ومعارضة)، بل حتى كان بالتعارض معها وبالضدّ منها. لقد كانت حالة التآخي السورية أهلية وشعبية بنسبتها الأكبر، وذات صوت موّحد في وجه جميع "الجهات العليا": إنكم عاجزون عن مساعدتنا، اتركونا فنحن نعيل أنفسنا بأنفسنا.

 لقد تحرّك السوريون عفوياً وبمبادرات ذاتية عالية التنظيم والإخلاص لينشلوا أنفسهم بأنفسهم، ونجحوا إلى حد كبير. وكانت الموجة كبيرة والنهوض الشعبي عارم إلى درجة فاجأت الجميع، جميع السلطات والمسؤولين والجمعيات، والتي بوصفها واجهات لتلك السلطات أيضا، اعتبرت غير موثوقة وغير فاعلة.

"مللنا كذبكم وسرقتكم ونهبكم، فسنشمر عن سواعدنا وننشل أنفسنا بأنفسنا من تحت الأنقاض والركام" هذا هو لسان حال الشارع السوري، مندفعاً ومتحفزاً، نحو عمل إنساني، هو بالنسبة لمجتمع كان قد صار، وعلى مدى عقد من الحرب، من أكثر مجتمعات العالم فقراً، لينجز عملاً إغاثيا ذاتياً، ضخماً وفعالاً، على كافة المعايير.

لقد شمّر الشارع السوري عن ساعديه وأخرج أبناءه من تحت الأنقاض وبنى خيمته من تحت الركام العظيم، وقال سنحيا! وهذا ما حصل، أمام "جهات عليا" مذعورة خائفة ومتفاجئة، وكانت قد أرسلت عوائلها مع أول فجر إلى مزارعها وفيلاتها الفارهة ذات الطابق الواحد.

كلّ منظمات الأنظمة أثبتت، ومنذ أمد بعيد، أنها لخدمة نفسها وحسب، وليس لخدمة الشارع، وليس لخدمة المجتمع المنكوب

إنّ هذه الظاهرة ظاهرة تآخي السوريين إثر زلزالهم الكبير لم تكن مدفوعة من قبل فكرة سياسية أو وعي سياسي ما أو إيديولوجيا منظمة... بل كانت عفوية، وحتى إن صحّ القول، غرائزية في طبيعتها. لقد كانت مدفوعة من قبل آلام ومعاناة شارع مقهور ومتعب ومظلوم، بات يعرف حق المعرفة أنه لن ينصره إلا نفسه، وأنّ جموع المتعبين والمرهقين من أبناء قرى وحارات هذا الشارع لن يساعدها إلا تعاضدها وتآخيها فقط. وقد أدركت تلك الجموع ذلك عبر غريزتها العفوية والاجتماعية، وأمام هول المشهد المرعب الذي شهدته، خاصة أنّ جميع الوعود وجميع الآمال معدومة، والثقة مفقودة منذ أمد بعيد بكل الطبقة السياسية السورية، موالاة كانت أم معارضة، فلا بديل لنا إلا أنفسنا، ولا حل لنا، إلا بتآخينا مع بعضنا البعض، هذا هو الدافع العفوي الذي فجر استفاقة 6 فبراير/ شباط الأهلية والشعبية الإنسانية الشاملة.

فأي قراءة سياسية ممكنة لهذه الظاهرة؟

 لقد بدأ الشارع السوري يعي، وإن بشكل عفوي، أنّ لا حل له من خارجه. والفكرة العفوية بدأت تتبلوّر سياسيا، أي على شكل وعي سياسي. إنّ استعادة الحياة السياسية السورية لا تتم عن طريق أحزاب أو تظاهرات فقط، بل الأمر ممكن عن طريق أشكال أخرى، عبر المنظمات الشعبية التي تنتمي إلى الشارع فحسب، وليس إلى سلطات وليس إلى أنظمة، منظمات أهلية شعبية اجتماعية وسياسية من نقابات وجمعيات ومنتديات مهنية ومناطقية، ومن كلّ شكل، ومن كلّ نوع، إذ إن هذه المؤسسات بالذات، هي عماد المجتمعات المدنية الحديثة. منظمات مستقلة عن السلطات، وعن كل مراكز القوى، تشكّل جماعات الضغط الشعبية التي يحتاجها المجتمع المدني الحديث ليحدث التوازن بين الدولة العربية المتضخمة ومصالحها وبين مصالح المجتمع الأهلي والشارع، ينظم فيها الأفراد أنفسهم بأنفسهم لصالحهم، وليس لصالح أنظمتهم، فكلّ منظمات الأنظمة، كانت قد أثبتت، ومنذ أمد بعيد، أنها لخدمة نفسها وحسب، وليس لخدمة الشارع، وليس لخدمة المجتمع المنكوب.

لقد فجر الزلزال السوري الطبيعي زلزالًا في الوعي الاجتماعي السوري، عبّر عن نفسه في ظاهرة تآخي السوريين في مواجهة الرعب والخوف، وهو ليس بعيدا عن أن يتحوّل إلى شكله الأعلى وعياً سياسياً شعبياً ومدنياً حقيقياً.

B486562D-4D18-4EB3-9BF9-98B8DAD70FEF
B486562D-4D18-4EB3-9BF9-98B8DAD70FEF
يزن زريق
كاتب سوري
يزن زريق