الرعب المتكرر واختلال القيم
عاودت الزلازل نشاطها بعد يقين بأنها لن تتكرر، إذ بدا مريحاً للجميع أن يتعاملوا مع كل اهتزاز جديد على أنه مجرد هزة ارتدادية تطلقها الأرض من أعماقها لترتكز أكثر، لتثبت، لترتاح كما يقال، رغم كل ما تتسبّب به هذه الراحة من مآسٍ وأخطار مرعبة.
يستعيد الناس، خاصة النساء، حكاية ذهبت مثلاً، بأن الإنسان لا يخاف مما لا يعرفه، لذلك شبهت النساء الرعب الحاصل عن الزلزال الأول بولادة الطفل البكر التي كانت تسبب قلقاً خفياً للأم، لكنه غير مفسر وغير مشخص، وبالأحرى غير معروف، لكن وفي الولادة الثانية تخاف الأمهات أكثر، لأنهن اختبرن فعل الولادة، يعرفن حقيقة ألمه وكل تفاصيل أجيادهن وحتى عقولهن تستعيد كل الآلام الماضية بعنف يجعل الرعب حاضراً وقوياً وملموساً حتى آخر الحدود.
حتى الصور القادمة من المشافي ومن مراكز الإيواء تظهر خوفاً أكبر، وخاصة عند الأطفال الجرحى أو الناجين المقيمين في مراكز الإيواء، لقد اختبروا معنى فقدان الأهل، يسترجعون لحظات سقوط البيوت، صوت الأرض التي كانت تزأر بصوت عميق ورهيب، يستعيدون العطش والجوع والعتمة والخوف من الموت وحيدين.
هكذا هي الحقيقة، البقاء تحت الأنقاض مرتبط برعب جديد ومختلف عن أي موت، من سينقذنا، ومتى، الألم منسي والنوم غائب، كل خلية في الجسد متنبهة حتى آخر درجة من التوتر، كي تتقبل فكرة وجودها وحيدة تحت الأنقاض أولاً، وكي تحافظ على أملها مهما كان ضئيلاً بأنّ لحظة الخلاص قد اقتربت جداً، وبأنّ الأحبة أو المسعفين أو القدر، لا فرق هنا، قادم إليهم على وجه السرعة وبأعلى درجات المقدرة على الإنقاذ المأمول، ولو مقابل وعود غير متوقعة أبداً، مثل الطفلة التي رجت رجل الإنقاذ إخراجها بسرعة على وعد بأن تعمل خادمة لديه، مع أنها وبكل بساطة كانت تمارس دور المسعف والحامي لأختها الصغيرة القابعة معها تحت ردم منزلهما.
أثارت ردة فعل الفتاة وعبارتها المؤلمة: "عمو بصير خادمة عندك"، نقاشاً حامياً، البعض تعاطف مع الطفلة واعتبر المناجاة عبر تلك الجملة مجرد سبيل للخلاص، لكن الغالبية توقفت عندها بقلق
أثارت ردة فعل الفتاة وعبارتها المؤلمة: "عمو بصير خادمة عندك"، نقاشاً حامياً. البعض تعاطف مع الطفلة، واعتبر المناجاة عبر تلك الجملة مجرد سبيل للخلاص، لكن الغالبية توقفت عندها بقلق. ذهب البعض عميقاً في تحليل دوافع تلك الجملة الطفولية المؤلمة، لكنهم أجمعوا على مدى قسوتها، فالجملة بشكل أو بآخر تكرّس مبدأ أن لا حل لأي مشكلة مهما كانت طارئة جداً وملحة وإنسانية دون ثمن، وماذا تملك الطفلات في بلاد النزوح والعوز وتخلي المؤسسات الحكومية والمحلية والدولية حتى عن تأمين معيشتهم بشكل لائق وكريم؟
كانت عبارة هذه الطفلة المجبولة بالخوف والتي حرضتها الرغبة بالنجاة، صرخة مدوية أوضحت وأفاضت بما تربت عليه الطفلات، الخدمة المنزلية، خدمة كبار العائلة، خدمة صبيان العائلة، مهما كانت أعمارهم، مساعدة الوالدة والجدة وحتى الأب في مختلف الأعمال التي تنتمي للقائمة الخدمية، سيقول صبي يمر بالحالة نفسها: "عمو طالعني وشو ما بدك بعطيك"، هو قادر على العطاء إذن، أو أن العطاء مبذول لأجله من قبل أهله، لكن الفتاة محصورة في مجال واحد، "خدامة"! يا للظلم البيّن والعظيم، المبني على عنف متأصل ومتراكم تجاه الفتيات والطفلات والنساء!
وعند كل هزة ارتدادية كانت أم جديدة، يهتز واقع يبدو أنه متناغم وحيوي ومتساوٍ ومتعاطف، لكنها هزات أعمق من ارتداد الأرض لترتيب وضعها، كما تقول الحكاية أو الحقائق العلمية، هي هزات بنيوية في صلب وجودنا ونمط عيشنا، هزات تخلخل قيماً ليست عادلة ولا إنسانية وغير محقة، رغم أنها متأصلة وشبه عامة.
هو الرعب المستمر صفة ملازمة لكل ما نعيشه قبل الزلازل وبعدها، لكن الزلازل كاشفة، مرعبة أيضاً، لكننا نوسع عدسة الرؤية خلالها أكثر، لا لرغبة في التعاطف، بل لأن اختلال بنية الأرض يكشف اختلالات بنية حيواتنا المكللة بالرعب وغياب الفرص والعدالة.