الذكرى الأولى لثورة (17 تشرين)... ماذا جنى اللبنانيون؟
"الثورة سرقها الزعران" .. "إنه الحلم الذي لم يتحقق" .. "ضاع وطني هجر الشباب وبقي اللصوص" .. "ثورتنا مكملين" .. "ليش فشلت الثورة".. بهذه العبارات وأكثر كتب اللبنانيون عن ذكرى ثورة 17 تشرين على وسائل التواصل الاجتماعي..
هي الذكرى التي لم يأب اللبنانيون أن تمر مرور الكرام مهما أصمت الحكومة آذانها، وتغافلت عن مطالب شعبها ودم الشهداء..
ليلة 17 تشرين 2019، لم تكن ليلة عادية بل مهرجان شعبي مليء بالفرح و الأمل، مهرجان كسرت فيه أصفاد الخوف، نزل غالبية الشعب الصامت المغلوب، وصدحت الحناجر بالكلمة الشهيرة "كلن يعني كلن" أمام ذهول العالم أجمع.
الجميع يدرك أن رموز النظام الفاسد بأموالهم ومافياتهم كانوا يرتعدون رعبا داخل قصورهم المشيدة وقلوبهم تكاد تخرج من صدورهم، فهم أمام لحظات حرجة إما تكتب نهايتهم المأساوية أو ولادة جديدة صلبة، لكنهم أحكموا قبضتهم، وأخرجوا أوراق لعبهم الماكرة، فمرة لعبوا على ورقة الطائفية، ومرة على ورقة الجيش والشعب، ومرة تراشق الاتهامات ومرة نظرية المؤامرة العالمية .. وضعوا السم في الإعلام ثم اعتقال وضرب فقتل.
لكن والحق يقال، لبنان رغم صغر حجمه فهو يحظى بالنظام الأقوى والأذكى على المستوى العربي، فالنظام متشابك معقد متجذر في الدولة حتى الصميم، وهو مرتبط بالطائفة، ولا يوجد رجل واحد في الواجهة، ولا يوجد فاسد واحد ولا اثنان و لا ثلاثة بل عصابة! عصابة سلبت البلد أمواله وثرواته، بل أحلام شبابه أيضا! وخلفته شبه بلد، شبه وطن، ما عاد بوطن بل خرابة يتلاعبون بها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة..
لست هنا من أجل نعي الثورة وإعلان الحداد، ولا حتى لإعلان انتصار كاذب، لكن لأجل النظر بواقعية تحليل الأحداث والتمحيص، فهناك الكثير من الثغرات والكثير من النضال، لكن الأمل دائما موجود وهو حاضر ما دام هناك روح وحياة.
أهلا وسهلا بكم في غابة الوحوش.. القوي يأكل الضعيف وطالما السرقة مباحة فلنسرق جميعا، طالما أن هناك سارقا كبيرا يحمي أتباعه من السارقين الصغار
لعل انهيار الوضع الاقتصادي، وعلى رأسه أزمة الدولار، واصطدام لبنان بفيروس كورونا وتداعيات الحجر والغلاء، كلها عوامل عملت ضد الثورة، فبات الشعب تماما كمن يحارب بصدر عار، لقد فقد الكثير من اللبنانيين أرزاقهم نتيجة الأزمة الاقتصادية، وانخفضت قيمة المرتبات حتى باتت لا تصل إلى حافة المائة دولار، وازداد الخناق على اللبنانيين الذين تراكضوا خلف أرزاقهم ومعيشتهم، وبقي الزعيم مع حاشيته في قصره مبتسما ضاحكا.
لقد عرت الثورة الوضع اللبناني على حقيقته، كسرت هيبة رموز الفساد، لا بل أهينوا و طاولتهم الشتائم حتى وصلت فضيحتهم إلى الخارج، لقد عرفهم العالم على حقيقتهم، وخسروا احترامهم أمام الصحافة العالمية وشعوب العالم. الحقيقة أنهم مجرمون فاسدون، وستظل مزابل التاريخ مأواهم على عدد اللعنات التي تطاولهم يوميا.
لقد كشفت الثورة عن لبنان واللبنانيين أيضا، فسويسرا الشرق تفوح منها رائحة الفقر ويلفها العنف ويغمرها الفساد، فاللبناني يذوق الأمرين ليجد لابنه مقعدا في المدرسة، ويموت الكثير من المرضى على أبواب المستشفيات.
واللبنانية تعنف وتسلب حقوقها في المحاكم أمام سلطة الرجل، والشاب يترك والديه عند الكبر ليبني مستقبلا في الخارج، مظاهر الترف والرفاهية والحرية الكاذبة التي ظهرت على اللبناني طوال عقود، أسقطتها الثورة أيضا، خاصة عندما شاهد العالم الثلاجات الفارغة على وسائل التواصل، وعندما ارتفعت نسبة الانتحار نتيجة الدين والعوز.. فأين ذهب الفرح يا لبنان؟
مرحبا بكم في عالم الواقع، إنه العالم البعيد عن مستحضرات التجميل وتصفيفات الشعر وبرامج الغناء والصور، إنها الحقيقة داخل الأزقة هناك في حي التنك في طرابلس، في شوارع بيروت التي تغمرها النفايات والمدن القديمة المتعبة، حيث العائلات تفترش الأرصفة وتسكن تحت الجسور، هناك تحديدا طفل يبكي وامرأة تبحث عن طعام وليس عن عطور وعلامات تجارية. تتزايد الجريمة يوميا حتى حدث ما هو أنكى وأمرّ.. انفجار بيروت الذي قضى على آخر جميل في هذا البلد المتعب.
اليوم بعد مرور عام على الثورة، لم يرحل رموز النظام، بل ازدادت صلابتهم حتى أمام العقوبات الخارجية والمبادرات التي لاحقت انفجار بيروت، لكن في المقابل هناك في صالات المطار ألف دمعة وداع يومية، وعناق طويل يكاد لا ينتهي، لكنه انتهى مع آخر جثة شاب سقط في انفجار بيروت.
مئات الشباب المغادرين وآلاف طلبات الهجرة في أدراج السفارات تنتظر الدراسة، ومن تقطعت بهم السبل يلجؤون إلى البحر.. البحر الذي يلاقي تعساء الحظ من المهاجرين منذ قرون طويلة.
عنوان المرحلة الحالية هو الهجرة، الرحيل بعيداً عن ملوثات هذا البلد البائس، فلا النفس ولا القلب ولا حتى الروح تجد ضالتها. لقد توقفت الأرض عن الدوران تحديدا في لبنان، فعجلة الحياة أثقلت أحمالها على بقعة جغرافية تسمى لبنان، لم يعد يحتمل الصراع، لذلك سيهاجر اللبناني بكل ما استطاع من قوة عله يجد وطنا بديلا.
يستيقظ اللبناني يوميا ليعد نفسه لمفاجأة متوقعة، حدث أو حتى كارثة، ربما في الطريق أو العمل أو حتى في السوبر ماركت أو الصيدلية، فالفساد لم يقتصر على الطبقة الحاكمة، بل كل من سولت له نفسه أن يسرق وكانت الفرصة أمامه سيسرق، ويحتكر، ويستغل الظروف الصعبة، فتجار الأغذية لم يرحموا الشعب فارتفعت الأسعار، وغابت اللحوم عن أطباق اللبنانيين وحتى الخضار باتت ثقيلة على جيوبهم، وللدواء حكاية أخرى يرويها أصحاب الأمراض المزمنة، فما عادوا يجدون أدويتهم في الصيدليات كأدوية السكري والضغط والقلب ولا أحد يعلم السبب. حتى أصحاب اليد العاملة والمهن استغلوا الفرصة فباتوا يطلبون أكثر من حقهم ولا يعملون بضمير.
أهلا وسهلا بكم في غابة الوحوش.. القوي يأكل الضعيف وطالما السرقة مباحة فلنسرق جميعا، طالما أن هناك سارقا كبيرا يحمي أتباعه من السارقين الصغار.
الحالة المأساوية التي وصل لها لبنان بعد مرور سنة على الثورة تدعو إلى التفكر في أنفسنا وفي سلوكياتنا وحياتنا، فحالة الخوف والهلع من انقطاع السلع والدواء أدت إلى سلوكيات لا أخلاقية و لا إنسانية، كشراء كل المخزون، أو الشجار، وحتى لجوء البعض إلى السرقة، فإلى متى سيصمد لبنان على هذه الحال؟ ومتى سنرتقي بالوطن؟
"لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" فقبل تغيير الزعيم والقائد والرئيس علينا أن ننظر إلى أنفسنا وتقويم أخطائنا، ونرتقي بتفكيرنا، نتقبل الآخر ونربط على أنفسنا في وقت الأزمات ونتحد.
لعل الثورة لم تنته بعد، لعلها ضاعت خلف دهاليز المؤامرات الخارجية والعصابات الداخلية، ولعل جائحة كورونا وما تلاها من أزمات أغفلت الثورة، لكنها بالطبع لن تنتهي ولن تموت، بل ستعود يوما ما إلى الواجهة.. فلا كتاب الاجتماع ولا السياسة والفلسفة يفقهون أدب الثورات بقدرنا نحن الشعوب المظلومة! فنحن من نضع قواعد الثورة وتعريفها وأنواعها، ونحن سنجدها ونرفع شعارها قريبا. طالما يوجد ظلم وقهر في هذا الوطن.