الخطيئة الرابعة لنصرالله
الخطيئة الأولى جاءت بعد عدوان تموز 2006 على لبنان. حينها، رأى حزب الله أنّه تعرّض للخيانة من أطراف لبنانية. وساهم في ترسيخ هذه القناعة لديه، أهداف العدوان، التي طاولت تحديداً البيئة الحاضنة للمقاومة.
وللدلالة على ذلك، روى نصرالله حينها، أنّه أثناء جولة في سيارته على أحياء "الآخرين" (قال إنه زار شارع الحمرا في بيروت)، رأى أنّ الحياة تسير كالمعتاد، فأقنعه منطقه، أنّ "الآخرين" شركاء في العدوان، كون أحيائهم لم تدمّر وعائلاتهم لم تقتّل. ولعلّ في اختيار الأهداف مصيدة إسرائيلية، للعب على عواطف وغرائز نصرالله سريع الانفعال، والذي يرى في زعامته حاضنة أبوية حامية لــ"الجماعة".
وقع نصرالله في المصيدة، وقرّر عسكرة اللبنانيين في خندقين: "أشرف الناس" وهم "أهل المقاومة"، وما دونهم شرفًا. ولو اقتصر التصنيف على السياسيين، لهان الأمر، ولكان خطأ أصلحته التحالفات السياسية والتقاء المصالح. لكنّه أراد أن يعاقب فئات لبنانية، لأنها لم تستهدف بشكل مباشر؛ الفئات التي قاومت العدوان بما تيسّر لها من أدوات، وكان ذلك عبر احتضان أهل المناطق المستهدفة. وفي هذا خطيئة تاريخية يتطلّب تصحيحها طلب الصفح والغفران لا النسيان. وحتى لو صحّ أنّ موقف نصرالله، كان ردة فعل على تحريض قيادات سياسية، على ضرب حزب الله (كشفت تسريبات ويكيليكس لاحقًا عن تحريض من سياسيين لبنانيين على ضرب حزب الله، لكن المفارقة أنّهم حلفاء للحزب حتى اللحظة)، فإنّ تصفية الحسابات السياسية لا تكون عبر استهداف طوائف وفئات ومناطق وأحياء وأزقة.
في الخطيئة الأولى، سقط نصرالله من مستوى زعيم لبناني وعربي، إلى زعيم طائفي فئوي، تحرّكه غرائزه أكثر من المنطق والبراغماتية السياسية. وبدا أنّه راض، غير مهتم، بهذا السقوط؛ ومع ذلك لم يحصل "فكّ ارتباط" مع "الآخر"، إلا عند الخطيئة الثانية.
الخطيئة الثانية، كانت في أيار 2008. رأى نصرالله أن "الطرف الثاني" المتمثل في الحكومة، قد بلغ المحظورات، فلم تعد الخيانة همسًا، بل امتدت إلى شبكة اتصال المقاومة ومواقعها في السلطة (جرى حينها إقالة مدير أمن المطار المحسوب على الحزب)، فأعلن أنّ "اليد التي ستمتد لنا سنقطعها". وبدلاً من المواجهة السياسية، اختار هذه المرّة أيضاً تأديب "الشارع الآخر"، فأفلت الرجال والسلاح على "الأحياء الثانية". اجتاح بيروت في ساعات ونصب الحواجز، وأمسك السلم الأهلي بخيط رفيع، ملوّحاً بإفلاته، ليعلن على الملأ أنه وحده من يقرّر الحرب، ومن يقرّر السلم.
في ارتكابه الخطيئة الثانية والتي زادها إثمًا وصفه الواقعة بأنها "يوم مجيد"، نكث نصرالله عهداً، بألّا يوجّه سلاحه إلى الداخل؛ فكانت الهدية الثانية على طبق من فضة لإسرائيل. كسرت هذه الخطيئة صورة نصرالله داخليًا، ووقع الطلاق مع "الآخر"، ولعلّ ذلك "اليوم المجيد"، كان بداية النهاية للمقاومة، بمفهومها الذي ترسّخ في بداية التسعينيات، حيث كان لها حاضنة شعبية وطنية.
الخطيئة الثالثة، كانت سورية وثورتها. عندها اختلطت الحسابات الإقليمية والمحلية، وبدا أنّ الآوان قد حان لحزب الله كي يدفع الأثمان لإيران، فزجّ بـ"رجال المقاومة" في سورية. وكي يبرّر الحزب، الذي يرفع راية المقهورين وقدّم الغالي والنفيس لتحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي، أنّ حربه سوريًا شرعية، أقنع أتباعه أنّه يشنّ حربا استباقية على "داعش" لمنعه من القدوم إلى لبنان. حقن عقول الفقراء بأفيون الطائفية، واشتغلت ماكينات محلية على التجييش وواجب القتال المقدّس لحماية المزارات، ووصل الأمر إلى حدّ الترويج بأنّ الحرب في سورية وإراقة الدماء تعجّل من ظهور المهدي؛ وهذه أسطورة شعبية، غير مبالغ بها بالمناسبة، ويعرفها القاصي والداني في المجتمعات المحلّية، حيث يملك الحزب باعا طويلا.
وبما أنّ الثورة السورية، لم تطلق رصاصة واحدة في الأشهر الثمانية الأولى منها، كان الترويج بين المنتظمين في الحزب، أنّ ثوّار سورية "دواعش"، هاجموا منذ اليوم الأول لحراكهم القرى الشيعية، لتبرير شرعية الحرب الاستباقية وعقائديتها.
في هذه اللحظة المفصلية، تحوّل حزب الله من مقاومة ضدّ إسرائيل إلى محتلّ؛ وعن تورّطه بحرب سورية واحتلال مناطقها حديث يطول ولا ينتهي.
الخطيئة الرابعة لنصرالله، كانت يوم نقل المعركة إلى بيئته الحاضنة نفسها. فعلى الرغم من التحوّلات السابقة، غير أنّ نصرالله لم يرفع يوماً أصبعه بوجه "البيت الشيعي" تحديدًا. حتى حين تبيّن أنّ حلفاء له من الطائفة نفسها، تزعّموا التحريض عليه، للتخلص منه ومن سلاحه، غلّب نصرالله "المصالح العليا للطائفة" وحرص على التوازنات والتحالفات السياسية.
هذه المرّة وضع نصرالله نفسه في مواجهة مع بعض "أهله"، الذين خرجوا للتظاهر. صحيح أنّ "شارعه الحزبي" لم يشارك في انتفاضة لبنان؛ غير أنّ جماهير ومناطق تُحسب على البيئة الحاضنة للمقاومة (وفق مفهوم الحزب)، كانت في صلب هذه الانتفاضة. لقد وجّه نصرالله لعموم المتظاهرين اتهامات بالتآمر والعمالة والتبعية للسفارات، وإن حاول تلطيف اتهاماته، بشكل غير موفّق، عبر الإقرار بعفوية التظاهرات وصدقية مطالبها. في هذه اللحظة بالذات، نزع نصرالله هالة القدسية عنه في بيئة المقاومة نفسها. ووقف ثوار هذه المناطق، والذين خرجوا ضدّ الفساد والمحسوبية والتبعية، ومن أجل دولة مدنية تكفل حقوقهم المتساوية بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينية؛ في الموقف نفسه، الذي كان به داعمون للمقاومة من غير طوائف. اختار نصرالله أيضًا أن "يقلّل من شرفهم". نقل المعركة إلى داخل بيته. وفي هذا الخيار، انتحار سياسي.
صحيح أنّها الخطيئة الرابعة لحسن نصرالله، غير أنّها ساهمت، عن غير قصد من صاحبها، في لبننة الطرف الشيعي في لبنان، الذي يتشكّل من عدّة طوائف، كان لكلّ منها مسار تاريخي مختلف في تشكّل الهوية الوطنية، وفي ذلك حديث آخر.
على مدار 14 عامًا، تكفّل مستنقع السياسة اللبنانية، وإيران، بإنهاء "أسطورة نصرالله" وحزبه؛ وهي نهاية لم تكن تحلم بها إسرائيل في أفضل سيناريوهاتها للقضاء على الحزب، الذي نجح يومًا في تحقيق نوع من الردع في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، المتفوقة عسكرياً في المنطقة. لا شكّ في أنّ إسرائيل تضحك في سرّها الآن. ولا داعي للحديث عن المؤامرة هنا؛ فأيّ منظومة دينية، تملك نواة تدميرها الذاتي، فيما لم يعرف حزب الله أن يستفيد من الفرص التاريخية للتخلص من هذه النواة، وانتهت محاولاته بالفشل، معيداً نفسه في كلّ مرّة إلى حظيرة الطوائف.
هنئياً لنا بثورة لبنان، التي أخرجتنا من حظائر الطوائف. هنيئاً لنا بثوّار لبنان، ووروده المتفتّحة، الذين حطموا التابوهات، وعلّمونا أنّ "الشعب يستطيع".