الخائن الذي أصبح وطنياً في ساعتين

29 اغسطس 2021
+ الخط -

يركض المستخدم أبو وليد في أروقة المؤسسة العامة للدواجن، ليبلغ تعميم الإدارة خطياً وشفهياً لجميع موظفي المؤسسة، بالقرار الذي يقضي بضرورة تواجد جميع الموظفين في ساحة المؤسسة صباح غد السبت، للتجمع وإجراء التفقد قبل الانطلاق إلى ساحة الأمويين في دمشق للمشاركة في مسيرة التأييد المليونية لإعادة انتخاب حافظ الأسد لفترة رئاسية خامسة.

تلقى سعيد القرار بابتسامةٍ مصطنعة، فهو يعلم جيداً أن المستخدم أبا وليد سينقل تعابير وجهه للجهات المختصة أثناء استلامه التبليغ. ثم حمل حقيبته وانطلق باتجاه الكراجات متوجهاً إلى منزله الكائن في حي ركن الدين، الذي تتسلق منازله البائسة جبل قاسيون، والتي تئنّ حجارتها المتعبة كأنين ساكنيها.

أمطار شهر شباط كيفية وآنية، لم يصطحب معه مظلته صباحاً لأنه عندما خرج من المنزل كان الجو صحواً، حاول الاختباء قليلاً تحت سقف على رصيف قريب قد يحميه من الأمطار، سمع أحد الباعة على بسطة الإكسسوارات والذي يضع مسدساً على خصره، ويتعمّد إظهاره، يقول لزبونة تبحث عن شكّالة للشعر: "السماء حتى السماء فرحة بإعادة انتخاب السيد الرئيس، يا سبحان الله".. تركته الزبونة بعد أن دسّت في يده ليرتين ثمن الشكّالة وغابت في الازدحام، ليتابع طريقه بعد أن توقف المطر.

استقبلته زوجته الحامل في شهرها التاسع بسيلٍ من الأسئلة والطلبات، "والله إني اختنقت من قعدة البيت، أين الفستان الذي وعدتني به قبل سنة؟ ولماذا لم تحضر لي البرتقال الذي أطلبه منك منذ شهر، ألم تقل لك الطبيبة إنني بحاجة إلى الفيتامينات؟ لو كنت أنت الحامل لاشتريت لنفسك كل ما تشتهيه.." وقبل أن تكمل موشحها اليومي، حملق فيها متعجباً، اقترب منها وقال: "لو كنت أنا الحامل؟! الله لا يوفقك.. الملافظ سعد". تركها تهمهم ودخل غرفته الصغيرة ليبدل ملابسه قبل تناول وجبة الحواضر التي أعدّتها زوجته.

لم يكن سعيدٌ سعيداً باستقبال زميله في العمل رؤوف الذي باغته بزيارة عائلية، كعادته، دون أن يأخذ الإذن منه مسبقاً، لكنه مضطر لذلك فهو يخاف خطّه الناعم وتقاريره التي تخترق الفولاذ، كما اضطر لاختلاق الأحاديث، لكنه كان حريصاً على عدم الحديث في أمور السياسة والاقتصاد والدين. علماً أن رؤوف كان يحاول بين الفينة والأخرى أخذ رأيه في قضية الاستفتاء الرئاسي ودستورية الأمر، فكان يجيبه في كل مرة بأن القيادة الحكيمة أدرى بمصلحة الوطن والمواطن.

بعد محاولات شاقة فشل خلالها سعيد بالنوم، وقبل أن يتمكن من رؤية حلمٍ ما، نطّ على زعيق زوجته الساعة الخامسة فجراً، وهي تستغيث من شدة آلام الطلق والمخاض، قائلاً: "لا تقوليها يا بنت الحلال، أين سأذهب بكِ في مثل هذا الوقت، ولماذا اليوم بالتحديد، الله يوفقك أجليها بس لبكرى".

مسح سعيد الدماء السائلة على وجهه بكتفه ثم أجاب بصوت منهك: "قسماً يا سيدي لم أكن أعلم بالمسيرة قبل التبليغ، ولست خائناً، وكنت مستعداً للحضور بفرحة كبيرة..

نظرت نحوه بوجهٍ يتصبب عرقاً ممسكة ببطنها وصاحت: "وكيف لي تأجيلها وهل الأمر بيدي؟ دخيلك لحقني قبل أن أموت"..

فزّ من فراشه والارتباك يقيد حركته فهو لا يدري ما يفعل، فليس لديه آلية ينقل بها زوجته إلى المستشفى، كما أنه لا يمكن أن يغيب عن مسيرة التأييد، فذلك قد يودي به إلى غياهب السجون والمعتقلات.. أمسك سماعة الهاتف ليتصل بمديره يخبره أن مضطر للإجازة، لكنه تذكر أن خط الهاتف مقطوع بسبب مخالفة عدم تسديد الرسوم الشهرية. لبس على عجل وألبس زوجته ثم سندها على كتفه وانطلق منزلقاً عبر زقاقات الحي نحو الشارع العام لينقلها إلى المستشفى.

بينما كان يتمشى في بهو المستشفى ينظر إلى ساعة يده التي شارفت على العاشرة والنصف صباحاً، خرجت ممرضة كالحة الوجه من غرفة العمليات لتطلب منه "الحلوان"، فقد رزقه الله بصبيّ "كأنه البدر في تمامه"، دس في يدها خمساً وعشرين ليرة، ثم دخل يطمئن على زوجته ومولوده الذي انتظره طويلاً.

أخذته الأحداث المتسارعة، ومن ثم الفرحة برؤية طفله، وأنْستهُ أنه كان من المفترض به أن يتصل بمديره ليخبره بظرفه القاهر. وقد أصبح أمام واقع جديد يتطلب منه القيام بواجبه الزوجي والأبوي، ويمضي كامل يومه في توفير ما تطلبه الزوجة منه وهو في قمة السعادة. لكنه لم يتوقف البتة عن التفكير في الاسم الذي سيطلقه على طفله، فاسم والده عبد المنتقم ليس مناسباً، لأن الاسم مركب وطويلٌ، هذا عدا عن كنيته العبد الله فمن الصعب أن يكون اسم طفله الثلاثي عبد المنتقم سعيد العبد الله، "هذه جريدة وليست اسماً ثلاثياً"، قالها في نفسه مبتسماً، وعاد ليفكر في اسم مختصر وجميل يليق بالطفل الجميل.

نهض في اليوم التالي متعباً بعد يوم قضاه ركضاً أمام الطفل وأمه، ودع طفله بقبلةٍ وانطلق إلى دوامه دون أن يعرف ما الذي ينتظره هناك، دخل المؤسسة مبتسماً وعيون الموظفين تلاحقه ما جعله يتعجب من حالهم، وقبل أن يدخل مكتبه أوقفه المستخدم أبو وليد وطلب منه مقابلة مدير المؤسسة فوراً. "آه ربما سيبارك لي بالمولود.. ولكنه لا يعلم أنني رزقت بطفل، فماذا يريد"؟ قالها وهو يطرق الباب، ثم دلف إلى الداخل متوجهاً لمصافحة المدير. صرخ المدير في وجهه "توقف عندك أيها الخائن العميل، أنا لم أرتح لك منذ فٌرضت علينا فرضاً".. "ولكن ما الذي.. يا..." قاطعه المدير: "اخرس ولا تتفوه بكلمة واحدة، فالجهات المختصة يا خائن".

دخل رجلان يرتديان لباساً رسمياً يحملان بنادق آلية كلاشينكوف، وقبل أن يفتح فمه اقتاده الرجلان إلى سيارة الستيشن البيضاء المركونة في الساحة، وانطلقا به مقيداً ومغمض العينين إلى فرع أمن الدولة. أنزلاه "شحطاً" مع بعض اللكمات والرفسات في الوقت الذي كان يحاول فيه الاستفسار عن سبب اعتقاله، لكن دون جدوى.

استقبله المحقق أبو يعرب ذو الشاربين الكثيفين بلكمة على عينه ورفسة بين رجليه ربما تحرمه فرحة تحصيل طفل آخر بعد اليوم، ثم رماه أرضاً، وقال بغضب: "نعم يا أستاذ سعيد، ولا أظنك ستكون سعيداً بعد اليوم، مع من كنت مجتمعاً ولأي عملٍ مخابراتيٍّ كنتم تخططون، اعترف فلن يفيدك الإنكار".

ذُهل سعيد من كلام المحقق، فانقض على قدمه يقبلها وهو مقيد اليدين، قائلاً: "دخيلك يا سيدي والله ما بعرف عن شو عم تحكي، داخل على الله وعليك". رفسه المحقق بعيداً عن قدمه، ثم جلس القرفصاء أمامه، وقبض بناصيته يشدها ويهزها: "ألم تستلم تبليغة بضرورة حضور مسيرة التأييد للسيد الرئيس المفدى"؟ قالها المحقق ثم نهض إلى كرسيه وراء الطاولة. هنا أدرك سعيد الورطة التي وقع فيها، فاستعجل يحلف الأيمان ويغلظها بأن السبب هو ولادة زوجته فجر أمس، وكان سيخبر مديره لولا انقطاع خط الهاتف.

لكن المحقق عاد للصراخ في وجهه مكذباً إياه في البداية، ولكنه وبعد التواصل مع المستشفى وتأكيد الأمر من قبل إدارة المستشفى بفاكس رسمي ومختوم، سأله: "ألم تعرف زوجتك أن تلد إلا صباح يوم المسيرة، أم أنك كنت تخطط لهذا مسبقاً أيها الخائن"؟.. مسح سعيد الدماء السائلة على وجهه بكتفه ثم أجاب بصوت منهك: "قسماً يا سيدي لم أكن أعلم بالمسيرة قبل التبليغ، ولست خائناً، وكنت مستعداً للحضور بفرحة كبيرة..

أصلاً لم أستطع النوم ليلتها من شدة فرحتي، لكنه أمر الله يا سيدي".. قاطعه المحقق: "حسناً وكيف نتأكد من وطنيتك الآن"؟ فأنت مطلوب للفرع 666 والفرع 999 وشعبة الأمن العسكري وإدارة الأمن السياسي، ولا يمكنني أن أطلق سراحك قبل أن أثق بوطنيتك، وأرسل إلى تلك الفروع بطاقة كفّ بحث بالدليل القاطع. هزّ سعيد رأسه بثقلٍ، وقال: "يا سيدي أرجوك، أعطني فقط ساعتين وسأثبت لك أنني مواطن شريف ووطني يحب الوطن والقائد المفدى". سكت المحقق برهةً وهو يفكر وقبل أن يجيب، تابع سعيد: "يا سيدي أرجوك أعطني ساعتين فقط، أين سأطير في نهاية الأمر، فأنا بين أيدي الجهات المختصة ولا يمكنني أن أهرب حتى ولو فكرت في ذلك معاذ الله". تنهد المحقق ثم منحه ما يريد برفقة عنصرين من عناصر الفرع يرافقانه حتى تنتهي المهلة المحددة.

مباشرةً وبدون إضاعة وقت انطلق سعيد نحو أمانة السجل المدني برفقة العنصرين الذين توسطا له عند الموظف المسؤول عن تسجيل الولادات متجاوزاً الطابور الطويل، وحين سكت الجميع مع إبراز العنصرين مسدسيهما المشكولين على خصريهما، تقدم سعيد المثقل بإصابته وجروحه من الموظف وناوله الثبوتيات التي حصل عليها من المستشفى، وبعد أن سأله الموظف عن الاسم الذي يريد أن يختاره لطفله، أجاب سعيد: "سجل عندك القائد الرمز المفدى المناضل حافظ علي سليمان الأسد". أنزل الموظف نظارته السميكة وبلع ريقه بصعوبة حين انتبه إلى عنصري الأمن، وكرر مرة أخرى بصوت مرتجف: "أنت متأكد يا ابني"؟ هز سعيد رأسه في الوقت الذي صرخ فيه أحد العنصرين بالموظف قائلاً: "ولاك يعني أنت لا تسمع، سجل مثلما قال لك".

تناول الموظف قلمه وبيدٍ مرتجفة دوّن مكان اسم الطفل الرباعي: القائد الرمز المفدى المناضل حافظ علي سليمان الأسد سعيد عبد المنتقم العبد الله. ليصبح سعيدٌ منذ ذلك الحين المواطن الصالح الذي نال حظوة عند الجهات المختصة التي يتردد إليها شهرياً، وأصبح زملاؤه في العمل يخشون فتح أي حديث أمامه.

نور الدين الإسماعيل
نور الدين الإسماعيل
خريج كلية الآداب جامعة حلب قسم اللغة العربية. يكتب الشعر والقصة القصيرة الساخرة والمسلسلات الإذاعية الساخرة لراديو فريش المحلي. كتب سيناريو فيلم قصير "المارد" قام بأداء الأدوار فيه مجموعة من الشباب الموهوبين في الداخل السوري. يقول: "عاطل عن الأمل"