"الحشاشين"... هل يكفي الترفيه وحده؟
انطلقَ السباقُ الرمضاني لهذا العام بعددٍ ضخمٍ من المسلسلات العربية بين مصرية، وسوريّة، وخليجية. وكالعادة، لم يبخل المنتجون الفنيون بإنتاجاتٍ مضمونة الربح، بل سعوا إلى حجزِ مساحة أكبر في السوق، بتحضير أكثر من مسلسل يدفعون بها جميعاً إلى السباق. هذه التنافسية العالية في الشهر الكريم، وبالرغم من التكرار، أدّت إلى تنوّع جميل يتطوّر من عام إلى عام، ولكن هل كان الكم على حساب الكيف؟
سؤال تستحيل الإجابة عنه خلال الموسم الرمضاني، فمن الصعب مشاهدة هذا الكم الهائل من الإنتاجات وتقييمها في شهر واحد، أو في سنة، لذا تذهب الأنظار دوماً إلى العناوين الأكثر مشاهدة، ثم الأكثر انتقاداً.
كان من بين أضخم الإنتاجات المثيرة للجدل هذا العام مسلسل "الحشاشين"، والذي باتت قصته معروفة عند الأغلبية، حيث تدور أحداث المسلسل في إطارٍ تاريخي وليس توثيقياً، ويحكي بطريقة درامية متقنة حكاية نشوء فرقةٍ من فرق الباطنية تُسمّى الإسماعيلية النزاريّة.
العمل عامة مُتقن الصنع، بدايةً من النص والخطوط الدرامية وحبكها بالخط الرئيسي للعمل (وهو القصة المتبناة حول نشوء هذه الفرقة) إلى إخراجه إلينا بصورة مرئية أقلّ ما يُقال عنها إنّها كانت مقنعة، وأخذتنا بعيداً في الزمن إلى تلك الحقبة. وكما في كلّ عمل درامي يتصف بضخامة الإنتاج، يسعى الصنّاع لتحقيق المعادلة الضامنة للنجاح، وهي تكامل النص مع الإخراج مع الأداء التمثيلي العالي. المميّز أنّ المخرج في سبيل تحقيق هذه المعادلة لم يتشبّث بالاعتماد على أسماء شهيرة، بل اتكأ على شراكته الناجحة مع الممثل كريم عبد العزيز الذي دوماً ما يثبت مكانته ممثلَ صف أول، بالإضافة إلى الممثل فتحي عبد الوهاب، في منحِ فرص لأسماء شابة في أدوار ثانوية أو رئيسية، كمنح دور عمر الخيام للممثل نيكولا معوّض، أو في إعادة توجيه الأضواء إلى الممثل أحمد عيد الذي أسند إليه دور "زيد بن سيحون" الداعية الأوّل للفرقة.
التنافسية العالية في الشهر الكريم، بالرغم من التكرار، أدّت إلى تنوّع جميل يتطوّر بين عام وعام
ظنّ الصناع أنّهم بإضافة عبارة "أبطال وأباطيل من التاريخ" إلى العنوان سيتفادون الانتقادات التي وُجِّهت إلى العمل في ما يخصُّ دقة معلوماته التاريخية، إلا أنّه لم يكن حلاً ناجعاً. الأمر ليس بالمستغرب، فالطرح بحدِّ ذاته جدلي بصورة كافية وضامن لشدِّ الانتباه والانتشار، فاليوم حتى من لم يشاهد المسلسل لا بدّ أنه سمع عنه، ولكن ما الذي نُقل إليه؟ الله أعلم! فهناك من يصفهم بالإرهابيين، وهناك من يشير إليهم بالباطنية أو الإسماعيلية أو... وكما يقال بالعامية "ضاعت الطاسة".
ومن الانتقادات التي وُجِّهت إلى العمل أيضاً استخدام اللهجة المصرية عوضاً عن العربية الفصحى، وهو ما يُمكنني القول إنّه لم يؤثر على تجربتي أنا شخصياً بوصفي مشاهداً، إنّما أثر عليها الاستخدام الرديء للعربية الفصحى في المواقع التي اضطروا إلى استخدامها كإلقاء الشعر أو الخطابات أو المراسلات، فرُفع المنصوب ونُصب المجرور وبكت الفصحى على حالها، وهو ما يبرّر وحده عدم اعتمادها في العمل.
إثارة الجدل ليست أمراً سهلاً، على العكس تماماً إنّها صعبة للغاية وتتطلّب شجاعةً عالية، ومسؤولية أعلى. وبالنظر الآن إلى العمل بدءاً من تبنّيه إلى صناعته ثمّ تسويقه، حتى إخراجه إلى المشاهدين والتعامل مع رأي الشارع، يمكن السؤال: هل تحلّت التجربة بالمسؤولية الكافية؟ من وجهة نظري، تحلّت بالمسؤولية فقط تجاه رأس المال الضخم المبذول في صناعته فضمنت له مشاهدة واسعة. أمّا هل تم التفكير في ما هو أبعد من ذلك؟ لا أظن.
لعب العمل دور الناقل لوجهةِ النظر الغربية حول الحكاية، وهي قصة الرحالة الإيطالي ماركو بولو، التي صُوِّرت في عملٍ روائي يُعدّ من أهمِ أعمال الأدب السلوفيني، ونعني رواية "آلموت" للكاتب فلاديمير بارتول، ويبدو أنّ المسلسل بدوره مستوحى منها لا من رواية "سمرقند" كما راج بين بعضهم.
إثارة الجدل ليست أمراً سهلاً، على العكس تماماً إنّها صعبة للغاية، وتتطلّب شجاعةً عالية، ومسؤولية أعلى
اليوم عندما أضع هذه المبالغ الضخمة في إنتاج عمل تلفزيوني، يعني هذا أنّي أريد الانتشار، إمّا عربياً وإمّا عالمياً. إذًا، كانت النيّة الانتشار عربياً فمن غير المقبول أن يحقّق هذا الانتشار على أساسِ إثارة النعرات الطائفية والمذهبية، فهذه الفرقة ما زال أتباعها موجودين حتى اليوم في دول عدة منها سورية (حيث كانت قلعة مصياف إحدى معاقلهم) وغيرها من الدول العربية، وما هم إلا جزء من طائفة أكبر.
أمّا إذا كان الهدف الانتشار عالمياً بالاعتماد على الشهرة المحقّقة مسبقاً للعنوان الإنجليزي من خلال سلسلة ألعاب الفيديو Assassin’s Creed المستوحاة من الرواية ذاتها، نكون بذلك قد ساهمنا في تأكيد صورة نمطية للغرب حول الإسلام، بدل أن نسعى إلى تغييرها من خلال تصدير حكايا جرت في عصور ازدهار لا انحدار.
يؤسفني أنّنا ما زلنا لا نمتلك الوعي اللازم أو بُعد النظر الكافي لقيادة هذه الصناعة إلى ما هو أبعد من المال، ما زلنا عالقين في مرحلة تجارة الترفيه وليس صناعته. بالتأكيد لا ألوم صنّاع العمل على ذلك، فهذه جهود يجب أن تُبذل على مستوى حكومات وليس رجال أعمال.