الحراك الجزائري... إحياء أم تحسين شروط؟
سرحان أبو وائل
لقد عاد الحراك إلى الشارع الجزائري في الأسابيع الأخيرة ليصنع الحدث من جديد بعد أشهر طويلة من الانقطاع، تغيرت فيها معطيات كثيرة، بدءا من بروز البعدين الاجتماعي والاقتصادي كأهم محرك للاهتمام العام بسبب تأثيرات جائحة كورونا، ثم تغير موازين القوى في المشهد السياسي، حيث لم تعد تلك التوليفة الحاكمة التي رافقت حراك 2019 كأشخاص ومنظومة وأفكار في الصدارة إذا استثنيا شخص الرئيس عبد المجيد تبون الذي استلم مقاليد الحكم على إثر الانتخابات المنبثقة من خارطة طريق أصرت قيادة الجيش آنذاك على تطبيقها كمسار دستوري للخروج من الأزمة وتجنب الفراغ بعد استقالة عبد العزيز بوتفليقة.
وغير تبون لم يتبقَّ من إرث 2019 سوى حملة مكافحة الفساد المستمرة بوتائر متفاوتة بين الحين والآخر، وعليه فقد ظهر جليا أن تلك المعالجة التكتيكية لم تترجم إلى رؤية استراتيجية شاملة لقيادة تغيير حقيقي وعملي للنظام السياسي الجزائري على أرض الواقع بعيدا عن الخطاب، بدليل أن كتلة سياسية وإعلامية و أيديولوجية تنتمي إلى عهد الرئيس السابق أو بشكل أسوء إلى ما قبله أي فترة التسعينيات قد عادت لتطل برأسها على المشهد بشكل دراماتيكي بعد أن تراجع دورها تدريجيا منذ 2004 وبشكل واضح منذ 2014.
وفي خضم التساؤلات الكثيرة حول ماهية ما حدث في 2019 ومصير الإرث المترتب عنه، ما بين كونه استجابة ظرفية لمشكلة خلافة الرئيس السابق بوتفليقة وانتهى الأمر، أو أنه إرادة هيكلية لتغيير واسع يستكمل التراكمية التي بدأت في وقت سابق من أجل الولوج إلى جزائر جديدة كما تشير إليها أدبيات السلطة حاليا، يعود الحراك الشعبي وقد كان صانع الحدث الرئيسي في 2019 أي الأب الشرعي لكل المسارات المحتملة الوليدة، وتعود معه المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقه لتوفير حصة الأسد من الإجابات حول التساؤلات الكثيرة المطروحة.
أثبتت الاحتجاجات الأخيرة في أكثر من مكان حول العالم مثل بيلاروسيا وغيرها، أن رهانات السلطة والسياقات الإقليمية المحيطة بها أقوى بكثير من إرادة التغيير الداخلي مهما بلغت قوتها
ودعونا نعترف بأن جزءا كبيرا من هذه الإجابات التي نبحث عنها قد نحصل عليها بشكل وآخر من متابعة الهيئة التي أخذها الحراك بعد عودته للشارع مباشرة، فعندما نكتشف -بعد عام من التوقف- أنه لم يطرأ عليه أي تحول او تحسين على صعيد المطالب أو التنظيم، وأنه لم يطور آليات لتحصين نفسه من الاختراقات الكثيرة التي يتعرض لها بدءا من فلول الأنظمة السياسية السابقة أو من التيارات الأيديولوجية صاحبة الرؤى غير الوطنية دينية كانت أم عرقية، سندرك أن نجاحات الحراك المحققة سابقا كانت محكومة بعوامل غير ذاتية، فالحدث العاطفي المتعلق بترشيح رئيس مريض وما أحاط ذللك من معطيات (فساد نخب و غيرها) هو من ألهب الغضب وتسبب في تحريك المياه الراكدة في مقادير العملية السياسية، وليس بالضرورة أن قناعة سياسية كامنة ببرنامج واضح للتغيير بين الجماهير هي من قادت التطورات وفي كل الحالات.
لا بد من التسليم بأن الطريق ما زال طويلا أمام الحركة المطلبية الديمقراطية الأصيلة في الجزائر حتى تصبح قوة فاعلة قادرة على إحداث التغيير ورعايته حتى يصل إلى بر الأمان، من خلال المشاركة الفعالة في بناء مؤسسات قوية ترسخ الممارسة الديمقراطية داخل المجتمع، وبالنظر إلى أن الظرف أصبح أصعب من الوقت السابق لغياب الشرارة العاطفية وبروز مسارات سياسية موازية سيبقى الحراك مجرد حركة شعبية مطببة مستمرة تتسم بالحضارية ولكنها لن تحقق أهدافها إلا عبر سنوات طويلة.
وإن لم تبادر قوى الحراك إلى نقلة نوعية في تشخيص المعضلة الجزائرية وتطوير استقلاليتها بعيدا عن الشعارات الفضفاضة، ستبقى هذه الحركة مجرد عامل يتم استغلاله والاستناد إليه بين الفينة والأخرى لتحسين شروط التفاوض داخل توازنات المشهد السياسي، وفي هذا النسق قد يتحول الحراك أيضا في لحظة ما إلى عنصر فعال يستند إليه التدخل الأجنبي لحسابات أبعد ما تكون عن الرغبة الصادقة في بناء مستقبل أفضل للوطن.
لقد أثبتت الاحتجاجات الأخيرة في أكثر من مكان حول العالم مثل بيلاروسيا وغيرها، أن رهانات السلطة والسياقات الإقليمية المحيطة بها أقوى بكثير من إرادة التغيير الداخلي مهما بلغت قوتها، فالشعب قد يخلق ظروف التغيير ولكن لحظة التغيير في حد ذاتها لا تتحقق إلا بقرارات سياسية حاسمة، وعليه فإن الطوباوية والعدمية التي رسمت بعض معالم الحراك منذ انطلاقته هي في حقيقة الأمر لم تكن إلا بذرة فناء وتدمير ذاتي، لأن التغيير الحقيقي يستند إلى المؤسسات وهو حركة شاملة تبدأ من المطلب في الشارع وتنتهي بالقرار الذي ينجز التغيير على أرض الواقع. وذلك مدخل للتعرف على العائق الذي يمنع الحراك من إحياء نفسه كقوة مؤثرة وبقاءه كحركة تحسين شروط في أحسن الأحوال.