الثورة السورية بعد عشر سنوات عجاف... ما الحل؟
جليلة الترك (سورية)
وهكذا انقضت العشر سنوات الأوائل من عمر الثورة السورية، ولم تبقَ عائلة سورية إلا وفيها شهيد أو معتقل أو مغيّب أو مهجّر. تفتت المجتمع السوري بسبب التعنّت الأسدي المتوحش مع كم هائل من الدمار والإفقار والحكم بالحديد والنار. ولم يكفِ الطغمة الحاكمة كل ما فعلت، بل إنها عملت على استجرار جيوش الأرض لاحتلال سورية، بعد أن شعرت بأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، فأصبحنا نعاني من الاحتلال إلى جانب الاستبداد. رفع نظام الأسد كلفة التغيير على السوريين إلى أقصاها، وها نحن في العقد الثالث من الألفية الثالثة للميلاد، ونظام الاستبداد الأسدي يحكم سورية منذ أكثر من نصف قرن. سعى السوريون الأحرار، بما استطاعوا إليه سبيلاً، نحو تحرير بلدهم من هذا النظام الفاسد والمفسد، الذي لم يجلب إلى سورية سوى الخراب والدمار وجيوش الاحتلال، فأعادها إلى الخلف مائة عام أو يزيد. وعلى الرغم من كل ما تقدّم، لا يزال الشعب السوري متمسكاً بضرورة إسقاط النظام وأكثر قناعة من ذي قبل، لأنه عرف ويعرف معنى الحرية، وكيف لا وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
الحل السياسي من جنيف إلى سوتشي
من وثيقة جنيف 1 إلى قرار مجلس الأمن 2254 وصولاً إلى مؤتمر سوتشي واللجنة الدستورية التي نتجت عنه، تمخّض الجبل فولد فأراً. هذا ما يمكن قوله في وصف مسار الحل السياسي في سورية. فبعد فشل كوفي عنان، الأخضر الإبراهيمي وستيفان دي ميستورا، جاء غير بيدرسون مبعوث الأمم المتحدة الحالي إلى سورية، ليصف الفأر (اللجنة الدستورية) بعد خضوعه لعدة اختبارات (اجتماعات) بأنه كان مخيباً للآمال. وخلال الجلسة التي عقدها مجلس الأمن مطلع شهر فبراير/شباط من العام الحالي 2021 قدّم المبعوث الدولي احاطته للمجلس، وأعلن فيها عن فشل اللجنة الدستورية في تحقيق أي تقدم، قال مندوب إستونيا الدولة العضو حالياً في مجلس الأمن: "إن نظام الأسد استخدم اجتماعات اللجنة الدستورية لتأخير أي عملية مصالحة حقيقية".
لماذا فشلت اللجنة الدستورية؟
يعتبر القاضي خالد شهاب الدين، رئيس هيئة القانونيين السوريين، أن كل الهدف من اللجنة الدستورية هو تمرير الوقت وصولاً لانتخاب بشار الأسد لفترة رئاسية جديدة. ويشرح شهاب الدين، في مطالعة وافية مدعّمة بكثير من الشفافية والوضوح، أسباب فشل العملية السياسية في سورية حتى الآن، وكيف ساهم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية مع النظام في إفراغ العملية السياسية من مضمونها، عبر تقديم تنازلات مجانية للنظام والروس تحت عنوان الواقعية السياسية. فذهب الائتلاف إلى التفاوض مع النظام قبل وقف إطلاق النار وقبل إطلاق سراح المعتقلين، وانصاع الائتلاف في مؤتمر الرياض 2 لرغبة الروس بدخول منصة موسكو والقاهرة وشخصيات أخرى محسوبة على روسيا والنظام، وما تبعه من تغيير في الخطاب وعدم اشتراط رحيل بشار من بداية المرحلة الانتقالية، ثم تنازل الائتلاف بعد ذلك عن الانتقال السياسي للسلطة عبر هيئة الحكم الانتقالية، وقبل بمخرجات مؤتمر سوتشي واعتبره المؤتمر الوطني العام الذي نتجت عنه اللجنة الدستورية.
لفت التجمع إلى أن أي صوت معارض يعطي تبريرات لاستمرار اللجنة الدستورية أو هيئة التفاوض هو ليس صوتاً نشازاً فقط، إنما هو صوت يخدم المشروع الروسي في استبقاء الأسد ونظامه الوحشي
وبالنسبة للأستاذ محمد صبرا، كبير المفاوضين السابق في الهيئة العليا للمفاوضات، فإن اللجنة الدستورية تتجاوز هدف تمرير الوقت، وصولاً إلى اعتبارها تنفذ رؤية نظام الأسد للحل السياسي. حيث يعتبر نظام الأسد أن الانتقال السياسي هو الانتقال من الدستور الحالي إلى دستور آخر والانتقال من الحكومة الحالية إلى حكومة أخرى. أما ممثلو المعارضة في اللجنة الدستورية فيصرّون على ممارسة الخداع والتدليس ويضللون عن عمد جمهوراً يفترض أنهم يمثلونه ويمثلون مصالحه وتطلعاته. ويستند صبرا في رأيه إلى عدة أدلة مستمدة من اللائحة الداخلية للجنة الدستورية نفسها، ومنها التنازل عن مبدأ التفاوض مع النظام لصالح التشارك معه، وهو ما يعطي النظام القدرة على التحكم بكل مسار العملية الدستورية وينسف بيان جنيف 1 والقرار 2254. وبحسب صبرا فإن ما قام به أعضاء المعارضة في اللجنة الدستورية ينطبق عليه ما صدر عن الهيئة العامة لمحكمة النقض السورية في معرض تعريفها للخطأ المهني الجسيم، حيث قالت: "إن هذا الخطأ لا يقع إلا من جاهلٍ أو لاهٍ أو ساهٍ عابثٍ أو متعمد".
أما الخبير الدستوري الدكتور عبد الحميد العواك فيرى أن اللجنة الدستورية، بالنسبة للثورة السورية، لا تتمتع بالشرعية ولا بالمشروعية، فهي من جهة فقدت المشروعية لأنها تخلّت عن مبادئ وقيم الثورة، ومن جهة أخرى فهي ليست منتخبة ولا تحمل شرعية الانتخابات، بل تم تعيين أعضائها من قبل الدول المتدخلة في الوضع السوري. ويستدل على فقدانها للمشروعية بطريقة تشكيلها من الأساس وآدائها خلال الجولات المتعددة، فضلاً عن وجود منصات مختلفة داخلها تحمل أجندة مختلفة يتعارض بعضها مع قيم الثورة. وبحسب الدكتور العواك فإن فشل المعارضة في تحقيق أي شيء من خلال اللجنة الدستورية، نابع أولاً، من فشلها في تحديد الأولويات بسبب تركيزها على كتابة الدستور، بينما كان يجب أن تعمل من منطلق التفاوض على كتابة دستور، بحيث تركز على تغوّل رئيس الجمهورية على جميع السلطات، ما أدى إلى ديكتاتورية عانى منها الشعب كثيراً وثار عليها. في الوقت الذي كان فيه وفد النظام يفاوض على كتابة الدستور، ووجّه اللجنة الدستورية كما يريد لأجل تحقيق هدفه في إبقاء سلطة النظام. وثانياً، من فشلها في طرح أجندتها على طاولة المفاوضات، فالمتتبع لجولات اللجنة الدستورية يلاحظ أن الأجندة منذ البداية جاءت لمصلحة وفد النظام، الذي اختار أن يبدأ الحوار على المبادئ العامة، وهو تضييع للوقت حيث لا تمكن كتابة المبادئ قبل سقوط الاستبداد والتحول الديمقراطي الذي يسمح بالحوار وطرح جميع الأفكار حتى يصل السوريون إلى نقاط اتفاق حول تلك المبادئ العامة.
مبادرات نحو الحل
في معرض البحث عن مبادرات تحمل رؤى لتنفيذ حل سياسي حقيقي، أستعرض مبادرتين، الأولى من التجمع الوطني الحر للعاملين في مؤسسات الدولة السورية، والثانية من حزب الشعب الديمقراطي السوري.
(1) انطلاقا من عدة حقائق منها، أن الهدف الروسي قد تحقق في حرف بوصلة الحل السياسي في سورية عن مسارها الصحيح، وانكفاء بعض القوى الدولية عن تحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية، يضاف له ارتباط بعض قوى المعارضة بأجندات قوى أجنبية على حساب دماء الشعب السوري، دعا التجمع الوطني الحر للعاملين في مؤسسات الدولة السورية إلى عدة خطوات:
أولاً: إنهاء مهزلة اللجنة الدستورية وهيئة التفاوض، وهي الخطوة الأولى للعودة إلى المسار السياسي الصحيح - احتراماً لدماء الملايين ممن ضحوا في سبيل الحرية والكرامة. وذلك ضروري من أجل عدم السماح بإيجاد مسارات أخرى لتمييع قضية الشعب أو تضييع الوقت خدمة للنظام وإعادة تعويمه تحت أي سببٍ كان.
ثانياً: إعادة النظر بمؤسسات المعارضة وعلى رأسها الائتلاف وإعادة بناءها على أسس جديدة لتمثل الشعب السوري وتحقق أهداف ثورته بعيداً عن عقلية التحاصص والزعامة والارتماء في أحضان القوى الدولية المتدخلة في القضية السورية. وذلك لإعادة ثقة الحاضنة الشعبية بمؤسسات الثورة واحترام القوى الإقليمية والدولية لها، ولاستعادة الثورة التي دفع من أجلها الشعب السوري ومازال أغلى الأثمان.
ثالثاً: الضغط على المجتمع الدولي بكل السبل المتاحة لوضع القرارات الخاصة بالقضية السورية محل التنفيذ بما يحقق للشعب السوري الكرامة والحرية والسلام والاستقرار على أرضه، ومعاقبة كل القتلة الذين ساهموا في جريمة العصر.
ولفت التجمع إلى أن أي صوت معارض يعطي تبريرات لاستمرار اللجنة الدستورية أو هيئة التفاوض هو ليس صوتاً نشازاً فقط، إنما هو صوت يخدم المشروع الروسي في استبقاء الأسد ونظامه الوحشي.
(2) في منتصف شهر كانون الأول 2020 انعقد المجلس الوطني لحزب الشعب الديمقراطي السوري، وأقرّ وثيقة تحمل عنوان "الوثيقة البرنامجية"، تضمنت رؤية الحزب لكيفية تطبيق حل سياسي حقيقي في سورية، من خلال إنجاز عملية وطنية جامعة، تأخذ بعين الاعتبار مصالح جميع السوريين وتطلعاتهم. تقدّم الحزب بوثيقته طالباً النقاش والحوار حولها، آملاً تأييده ودعمه، سواء بالتعاطف والتشجيع، أو بالانتقاد، الذي يكرّس حرية الرأي وحق الاختلاف وتعدد الآراء ووجهات النظر، التي تغني الوثيقة وتعزّز الحوار الوطني، متوجهاً بها إلى مستويين:
• مستوى عام: يشمل جميع أطياف الشعب السوري، في الداخل والخارج.
• مستوى خاص: يشمل قوى ثورة الحرية والكرامة وشبابها، وحلفاء الحزب وأصدقاءه وجميع القوى السياسية والاجتماعية، والفعاليات الاقتصادية والثقافية والمهنية.
ويؤكّد الحزب في وثيقته على عدة نقاط رئيسية، منها:
- إن الحزب يعي تماماً حجم هذه المهمة وأهميتها وصعوبة بلورة برنامج فعّال يستند إلى قواسم وطنية مشتركة، خصوصاً في المرحلة الحالية، إن كان لناحية رزوح البلد تحت نير الاحتلال وتصارع القوى الدولية فيه وعليه، أم لناحية حالة الانقسام والتشتت والإحباط والعجز التي تسود أوساط السوريين، في ظل الاستبداد والتوحش الأسدي.
- يحاول الحزب الانطلاق من الوضع الراهن الذي سبق وصفه أعلاه، للإضاءة على مرتكزات العمل الوطني والانتقال السياسي وآلياته ومهامه، وذلك لتحقيق طموحات السوريين في وطنهم والصورة المنشودة لسورية المستقبل.
- يعلن الحزب عن انفتاحه على المجتمع وعلى قوى ثورة الحرية والكرامة والقوى الوطنية والديمقراطية في سورية بطيفها المتنوع، وينطلق في عمله من إيمانه بضرورة وجود برنامج مشترك يجمعها في أي لقاء أو مؤتمر وطني.
- يركّز الحزب على أهمية إبراز الهوية الوطنية للشعب السوري، وعلى أهداف التغيير والثورة، وإدارة تحالفاتها، بما يمكّنها من الدفاع عن القرار الوطني السوري المستقل الذي يشكل عصب النجاح ويمنع الانتهازية والفساد والتطرف.
- يرى الحزب أن ما يجمع بين السوريين على اختلاف انتماءاتهم أكثر بكثير مما يفرقهم، وأن المهمة المركزية الجامعة للشعب السوري تكمن في الخلاص من نظام الاستبداد الأسدي وقوى الاحتلال وبناء سورية الجديدة وطناً حراً لكل أبنائها بجهود الجميع ومن أجلهم.
كما تتضمن الوثيقة مراجعة شاملة للثورة ولأسبابها، وشرحاً وافياً للأوضاع العربية والإقليمية والدولية وتأثيرها على الملف السوري. تحمل الوثيقة دعوة للعمل المشترك لتشكيل كتلة وطنية تعبر عن إرادة السوريين، وتقود كفاحهم عبر برنامج وطني للانتقال الديمقراطي، ينقذ البلاد من الاستبداد والاحتلال، ويحقق أهداف الثورة.
يمكن الاطلاع على الوثيقة كاملة من خلال الضغط هنا