التمييز في مراسم النعي
قد يقول البعض: إن مدونتي اليوم غارقة في الترف البروتوكولي، وقد يقول آخرون: ثمة بشر لا يجدون من يدفنهم ولو في قبور جماعية، وثمة موتى مفقودون وأحياء مجهولو المكان ومختفون، والجميع يبحث عنهم لتثبيت موتهم أو عيشهم، كل هذا في ظل وضع عام غير إنساني، مع ضرورة التذكير بأن عشرات الآلاف من البشر قد توفوا ودفنوا دونما ورقة نعي أو إعلان يخصّ موتهم.
لكن كما للحرب تمييزها القاسي والمنافي للقيم الإنسانية الأصيلة، كذلك يتم تجاهل الحقوق والتمييز ما بين النساء والرجال حتى في الموت، وليس في الموت وحده بل بتفاصيله العامة.
توفيت صديقتي الحاصلة على شهادة جامعية عالية، لم تعش تمييزاً يوماً ما بفضل البيئة الأسرية الداعمة للنساء، وكان زواجها محطة أكثر ثباتاً في عالم وحياة أسرية واجتماعية بلا تمييز أيضاً. لطالما دعت صديقتي بل لطالما أعلت صوتها وطالبت بوجوب وقف التمييز، أعلنت كل قناعاتها ومارستها بحرية وعناد وثبات. يمكن الجزم بأن كل المحيطين بها على الأقل في الدوائر الضيقة عائلة وأهل وأصدقاء كانت ضد التمييز بل وتنشد المساواة وتسعى بجدية وعلنية إليها، وتمكنت الصديقة فعلياً من عيش جزء كبير من قيم المساواة في جو يمكن وصفه بلا تمييزي رغم الوضع الاجتماعي العام المرحب بالتمييز أو المتقبل له على مضض أو الصامت عنه في أقل تقدير.
كما للحرب تمييزها القاسي والمنافي للقيم الإنسانية الأصيلة، كذلك يتم تجاهل الحقوق والتمييز ما بين النساء والرجال حتى في الموت، وليس في الموت وحده بل بتفاصيله العامة
يبدو المشهد أو الخبر طبيعياً جداً: وفاة سيدة وحيدة في دمشق! الزوج متوفى والأبناء والبنات كل في مهجره البعيد، ولأن صديقتي محاطة بالأحبة والأصدقاء والصديقات، تم ترتيب كل شيء بعناية واحترام وتقدير، من النقل إلى المشفى والاستشفاء ومن ثم تأمين الجثمان وكافة التفاصيل الإجرائية الأخرى والتي باتت عبئاً ثقيلاً وصعباً في حد ذاتها، وخاصة تأمين قبر خاص بها، لكن وللأسف الشديد جاءت ورقة النعي مخالفة لكل القيم التي عاشتها صديقتي والتي سعت لتعميمها وتثبيتها كقيم أساسية للعيش دون تمييز ودون تسلط أو تغييب.
لم يذكروا أسماء بناتها في ورقة النعي، حتى إنهم لم يذكروا أسماء حفيداتها بنات أولادها الذكور، وألحقوا حيفاً كبيراً ومرّاً حين كتبوا تحت اسمها حرم المرحوم فلان! حرم من حرمة وهي عبارة قاسية تنتهك جمال العلاقة الزوجية والتشاركية والمتساوية، حينها شعرت وكأن صديقتي تصرخ من مستقرّها في ثلاجة المشفى تمهيداً لدفنها! كلمة ثقيلة قد يراها البعض طبيعية بل وتبجيلية، لكنها في الحقيقة تركز على جانب واحد في علاقتها بالزوج وهي تثبيت واقعة امتلاكه لها تحديداً، تبعتيها للزوج لتثبيت قاعدة الحلال والحرام التي تعتبر أساس كل العلاقات، وخاصة الزوجية والعائلية في مواجهة قيم المساواة والاستقلالية والمشاركة والمساواة في المسؤولية أيضاً. تساءلتُ بحرقة ومرارة، وصورة صديقتي العنيدة في مخيلتي: لماذا لا يذيلون اسم المتوفى بعبارة زوج المرحومة فلانة مثلاً؟
أقترح أن يكتب الأشخاص أوراق نعيهم ويتركونها مع وصيتهم، الموت تفصيل يتجدد شكله أيضاً، فلماذا لا نقبل كسر القواعد الثابتة التقليدية ونعلن موتنا كما يليق بتفكيرنا؟
في الحياة نمارس أنماطاً متعددة وبالغة الاختلاف عن أنماط عيش شركائنا في الحياة أو المجتمع، فلماذا يلزموننا بطريقة نعي تقليدية لا تشبهنا؟ ليست الحياة وحدها مرآة لقيمنا وقناعاتنا وأفكارنا وطريقة عيشنا، بل الموت هو كذلك، يشبهنا ويؤكد على تفكيرنا ونحن نودع هذا العالم.
أستغرب بشدة بشراً يعيشون حيواتهم باختلاف 360 درجة عن سواهم، وعند الموت يلتزمون بعادات وتقاليد ما قبل التاريخ في حركة نكوص غير مفهومة وغير مبررة، ربما يكون هذا النكوص جزء من العودة إلى حياة محكومة بالاستنساخ والحرفية التقليدية لكسب التعاطف في ساعة الألم؟ لكنه نكوص لا يشبهنا ويجرف معه كل ما سعينا إلى عيشه بملء إرادتنا وبقرارنا الوعي.