الاستبداد السياسي يلعب بالمؤسسة العراقية

04 نوفمبر 2024
+ الخط -

شهد العراق على مر تاريخه المعاصر حقبًا من الاستبداد السياسي الذي عمق جذوره في مختلف أوجه الحياة، ومن الحقبة الملكية مرورًا بالعهد الجمهوري والانقلابات العسكرية ووصولاً إلى نظام صدام حسين، ثم الاحتلال الأميركي والحقبة الحالية، تتسم كل مرحلة بملامحها الفريدة من القمع والاضطهاد.

هذه السلسلة المتواصلة من الاستبداد السياسي أنتجت منظومة متجذّرة من الفساد والمحسوبية والهيمنة المطلقة، وأوجدت مناخًا من الخوف والترهيب.

وفي ظل هذا الواقع، يصبح من الضروري تفكيك الخطابات السياسية المسيطرة وتحليل الجذور العميقة للاستبداد السياسي في العراق لفهم آثاره المتراكمة واستشراف السبل الممكنة للتحرر وإرساء قواعد الديمقراطية الحقيقية.

يمكن البدء بسيطرة وتعول السياسة على المؤسسة الإدارية في الدولة، من بعد عام 2003، حيث قادت الولايات المتحدة غزوًا عسكريًا للعراق أدى إلى سقوط نظام صدام حسين، وبالرغم من إسقاط نظام استبدادي، فإن التدخل الأميركي لم يؤد إلى استقرار سياسي أو ديمقراطية حقيقية، بل دخل العراق في مرحلة من الفوضى والعنف الطائفي، مما أوجد بيئة خصبة لظهور أشكال جديدة من الاستبداد.

هذا الغزو، أسس لمبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية، في آلية للحفاظ على الموازنة بين مختلف الفئات الطائفية والعرقية، وأدى إلى تفتيت السلطة وتعزيز النفوذ الفردي والطائفي على حساب المصلحة الوطنية الشاملة.

وعلى مدى العقدين الماضيين، ظلّت المؤسسات مسرحًا لتأثيرات الاستبداد السياسي، حيث شهدت تآكلًا متزايدًا لاستقلاليتها ونزاهتها. وهذا التدخل تمثل في فرض الأحكام التي تخدم مصالح النظام الحاكم، وغالبًا ما يتم ذلك عبر ما يُعرف بـ"الإملاءات"، على رئيس المؤسسة الخدمية أو الإدارية، نزولاً إلى صغار الموظفين.

نتيجة للتدخل السلطوي والفساد المستشري، تدهورت ثقة المواطنين في النظام الإداري، وصار من أصعب المواقف التي يمر بها المواطن العراقي هو المرور بدائرة رسمية أو حكومية، لأنها تمثل شكلاً من أشكال العذاب.

النظام الاستبدادي في العراق عمد إلى ترسيخ الاحتكار البيروقراطي الممنهج، الذي يعبّر عن هيمنة النخب الحاكمة على مفاصل الدولة البيروقراطية

أرى أن العدالة الانتقائية هي نتيجة مباشرة للاستبداد السياسي، إذ يُطبّق القانون بشكل غير متساوٍ بين المواطنين، ويُعرف هذا النوع من العدالة بـ"العدالة المتحيزة"، حيث تُستخدم الإجراءات والتوجيهات كأداة لقمع المعارضين السياسيين وتفضيل الحلفاء والمقربين من النظام، وهذه الممارسات تقوض مبدأ المساواة أمام القانون وتخلق بيئة اجتماعية مضطربة وغير مستقرة.

تحت وطأة الاستبداد السياسي، شهدت المؤسسات السياسية في العراق ما يمكن وصفه بـ"الانحلال السياسي البنيوي"، وهذه الظاهرة تتمثل في تفكك الهياكل التنظيمية الرسمية، حيث تصبح الكيانات السياسية عاجزة عن القيام بوظائفها الجوهرية بسبب التلاعب السلطوي. وهذا الانحلال يؤدي إلى "التصحر السياسي"، حيث تفتقد البيئة السياسية إلى التعددية والديناميكية اللازمة لنمو الأفكار والإصلاحات.

النظام الاستبدادي في العراق عمد إلى ترسيخ الاحتكار البيروقراطي الممنهج، الذي يعبر عن هيمنة النخب الحاكمة على مفاصل الدولة البيروقراطية بشكل يضمن ولاء الأجهزة الإدارية للنظام. نتيجة لذلك، تتحول البيروقراطية إلى أداة طيعة بيد السلطة، تفتقر إلى الاستقلالية وتعمل على خدمة مصالح القلة الحاكمة فقط.

ينسحب هذا الاستبداد إلى ملف الاقتصاد، ما يؤدي إلى الانكماش الاقتصادي التراتبي، الذي يصيب في النهاية جميع طبقات المجتمع، وبشكل متفاوت، ما يعزز فجوة الفقر والثراء، حيث تُركز الموارد في أيدي القلة بينما تُترك الأغلبية تعاني من الفقر والتهميش.

ولا يسلم القطاع التعليمي في العراق، ما أدى إلى انحسار معرفي شامل، وتراجع مستويات التعليم والثقافة العامة، حيث تُهمش المناهج التعليمية وتُفرض الرقابة على البحث الأكاديمي، بالتالي يعاني المجتمع من نقص في الابتكار والمعرفة.

وأدت سياسات الاستبداد إلى "الانحدار الثقافي المتدرج"، حيث يتم تهميش الثقافة والفنون والإبداع، وأضعف من الهوية الثقافية الوطنية وجعل المجتمع عرضة لتأثيرات سلبية من الخارج..

صحفي ومدوّن عراقي
زياد طارق
صحافي ومدوّن عراقي، ولد في بغداد ويعيش فيها. درس في كلية دجلة الجامعة، ويعمل في الكتابة والصحافة. يؤمن بمقولة "تملك يدين، واحدة لتساعد بها نفسك، والأخرى لمساعدة الآخرين".