الأولويّةُ للمواطنِ وليسَت للحاكم
يُمكن الاتفاق مع الفکرةِ التي تقول إنّ الديمقراطية لا تولدُ جاهزةً من رحمِ نظام الاستبداد الفاسد، ولكنّها تحتاجُ إلى بناءٍ نظريٍّ وعمليٍّ من الصفر. فهذه العمليةُ، لم ولن تتحقّق عن طريقِ وصفةٍ طبيّةٍ جاهزة، بل هي في واقع الأمر عملية سياسيّة، اقتصاديّة، اجتماعيّة، ثقافيّة مُعقدة.
والواقعُ العراقيُّ في حقيقته يملكُ نوعين من القوى أو العناصر، قوى الثبات التي تقاوم التغيير أو التحوّل المفاجىء، وقوى التجدُّدِ التي توفّرُ الأرضيّة وتعدُّ المسرح للواقع الجديد.
إنّ فکرةُ التحوّل والتغيير السياسي من أهم ما تمّ التوصّل إليه في الواقعِ، وفقَ إطارٍ توافقيّ مُحدّد، یُعّبرُ عن أهداف ومصالح مشترکة يعبّر عنها الدستور الذي يتضمّن المبادئ الدیمقراطیّة والقانونیّة العامة، والقواعد الأساسیة التي توجّه النظامَ السياسيّ، فیُعتبر بذلك المرجعیة الأم لقوانین الدولة. والدستور في الأنظمةِ الدیمقراطیّة هو ثمرة المسارِ السیاسيّ والاجتماعي والثقافي، ویُلخّصُ المحطات التي تَمرُّ بها الشعوب.
فالدستورُ لیسَ وثیقة قانونیّة فحسب، بل هو حلم الدیمقراطیّة، الذي یُعَبّرُ عن رغباتٍ وآمالٍ وطموحات الشعوب عبر سنوات طویلة قد تصل إلى قرون. وکلّما کان الدستورُ ترجمةً لهذا الحلمِ، کانت حیاتهُ أطول، وکلّما کانَ ترجمةً لأفکارِ فئةٍ معیّنةٍ لا تمثلُ الشعب، تكونُ حیاتهُ أقصر وتَنْعَكِسُ كليّاً فيِ السياسةِ العامة، حيثُ یجبُ إشراكُ کلّ طوائف وفئات الشعب. ولذلك عملت الدول على توسیعِ دائرة المشارکةِ الدیمقراطیّةِ في عملیاتِ إعداد الدستور، بما یتماشى مع تحقیق الاستقرار والتوازن المؤسّسي والحدّ من التوتّر والصراعاتِ في المجتمع.
إنّ الدستور في الأنظمةِ الدیمقراطیّة هو ثمرةَ المسار السیاسيّ والاجتماعي والثقافي
كما أنّه يجب العمل على تحقيقِ نظامٍ سیاسيّ تكون فیه الأولویّة للمواطن ولیس للحاکم، حتى تمتلك الدولة العراقیّة رؤیة واضحة ونظرة مستقبلیّة إلى الدورِ المطلوب منها بصفتها دولةً ملتزمةً بسیادة القانون (دولة مؤسسات)، وقادرةً على تحدید الأهداف ورسم السیاسات والخطط وبرامج التحوّل والانتقال نحو التماسك الدیمقراطي، في ظلِّ إدارةٍ فاعلةٍ تنظرُ إلى المواطنین، لا باعتبارهم مستهلكين یتلقون الخدمات، بل باعتبارهم مواطنینَ یشارکونَ في صنعِ القرار وفرض التغییر. وبناء عليه، إنّ عملیّةَ التحوّل الدیمقراطي في العراق تتطلّبُ حلولاً جزئیّة وتدریجیّة، نتیجة الأثقال التي أربكت النظام السیاسي العراقي الجدید، واستنفدت جزءًا غیر یسیر من طاقاتهِ وإمكاناته للمواجهةِ المستقبلیّة المحتملة لمشکلاته الداخلیة والخارجیة.
ویأتي اختیارُ التحوّل السياسيُّ في العراقِ من أهمیةِ التغییر الذي حصل فيه في التاسع من إبريل/ نیسان من العام (2003)، إذ أتاحَ الفرصةَ للعراق لممارسةِ الدیمقراطیة بعد عقودٍ طویلة من الاستبداد السیاسي، إلّا أنّ التحوّل الدیمقراطي في العراق یواجه العدید من المعوّقات الداخلیة التي کانت تتفاعلُ مع المؤثّرات الخارجیّة، وعلى مراحل ومواقف ومتغیّرات مختلفة.
إنَّ عملیة التحوّل السياسي الدیمقراطي في العراق ما زالت ناشئة، وفي بدایة الطریق، وتتطلّب جهودًا متعدّدة للمحافظة على ما تحقّق، والسعي لتطویره ونقله إلى التماسك الدیمقراطي، حيثُ إنَّ التحوّل السياسي الديمقراطي یُواجه عوائق عدیدة، قد ينبعُ بعضها ممّن یُنادي بهذا التحوّل، لا سیما إذا ما کان الشعب یعاني من مدةٍ طویلةٍ من الخضوعِ والظلمِ وفقدان الحریّات الأساسیّة.
ولهذا، ولتحقيق ما سبق الحديث عنه، يجب توعیة الشعب والسلطة بحقیقة التحوّل السياسيّ الدیمقراطي، وما یمثّله من مفاهیم أساسیّة، مثل الحریّة والسیادة والسلطة والدیمقراطیة وغیرها من شؤون الحیاة السیاسیة والثقافیة، بحیث تظهر لدى الشعب حقیقة التحوّل الدیمقراطي واضحة وکاملة، إذ إنّ هذا التحوّل بمثابةِ صُنعِ الحیاة، وهو أمانةٌ کبرى في أعناقِ الشعوبِ، قبل أن یكونَ أمانةً في أعناقِ قادتها، ویعکسُ غیابَ الوعي به مدى ضعف الشعوب وتخلّفها.
بالنتيجة، یستلزمُ التحوّل السياسيّ الدیمقراطيّ إمکانیة دفع الناس إلى التفکیر في مراحل وأهداف هذا التحوّل، وفي طبیعة النّظام وشکل الحکومة ومدى ملائمته هذا الشعب من عدمه، وطبیعة الحقوق والحریّات المذکورة في الدستور، على أنّ تُقام أنشطة لتوعیةِ الشعبِ بأهمیّةِ التحوّل الدیمقراطيّ وإعدادِ برامجَ للتثقیفِ الدستوري.