الأغنية التركية... تركيبة عربية

05 اغسطس 2023
+ الخط -

تحقّق لنا الأغنية التركية توازناً عاطفياً وترتيباً ذاتياً متجدّداً للذكريات، إضافةً إلى تفريغ الطاقات السلبية الكامنة، وتعدّ العلاقة بين الشرق والغرب علاقةً مصيرية تحقّق معنى السبب والتسبّب في الأغنية التركية، وأيضاً الفعل ونتائجه. إذ إنّ هناك تقاطعاً ملحوظاً وتشابهاً كبيراً بين التراث العربي والأغنية التركية نتيجة التقارب الثقافي الكبير تاريخياً، بالإضافة إلى طبيعية التاريخ المشترك بينهما والجغرافيا أيضاً. 

من الملاحظ أنّ الأغاني التركية عمل أدبي قائم بذاته، نتيجة ارتباطه بالتراث العربي. فمن شبه المستحيل الحديث عن تركيبتها العربية دون تحليلها أدبياً، إذ إنّ التراث العربي أدبيّ التكوين والنشأة. تنطبق عليه عناصر العمل الأدبي مثل العاطفة، والمعنى، والأسلوب، والخيال. وليس في وسعنا ها هنا أن نذكر مثلاً، أو اثنين، أو ثلاثة، إذ إنّنا لا نحدّ تركيبة الأغنية التركية بعدد محدّد، بل نشملها جامعين مانعين في رؤيتنا الأدبية لها قبل قيمتها الفنية. نذهب الآن محللين لعناصر العمل الأدبي في الأغنية التركية ذات التركيبة العربية، الذي سيكشف لنا أطر ارتباطاتها الأدبية في الثقافة والأدب العربي. إذ هناك أغانٍ تركية يُخيّل لنا أنّنا أدركناها من قبل، لكنّها في الواقع قريبة إلى حدّ ما لقصيدة عربية ما وليست هي القصيدة تماماً. 

عنصر العاطفة يمثّل تقاطعاً مع العصر الجاهلي من جهة البكاء على الأطلال، ولوعة الفراق، والاشتياق للحبيب، ما يدلنا على حبّ عذري يسافر عبر الزمن ليلتقي شعراء المعلّقات السبع أو غيرهم من العذريين. وذلك تحديداً ما يفسّر انجذاب الكثير من العرب إلى الأغنية التركية. ففضلاً عن جمعها لثقافة واحدة، هي أيضاً العود إلى البدء، إلى أصالة الحبّ، وروحانيته، في زمن سيطرت الرأسمالية على الحب ليغدو فارغاً من مضمونه العاطفي، مركزاً على قيم الاستهلال لأدوات مثل المال، والممتلكات، والأنساب والجنس. فجاءت الأغنية التركية لتنعش عواطفنا الإنسانية، مؤكدةً شاعرية الحب وروحيته التي من غير الممكن تخشيبها وصلبها، حتى مع وجود أنظمة سياسية واقتصادية تدفع عواطفنا الإنسانية نحو الضمور، مبديةً منّا خطايانا السبع: الغرور، والجشع، والشهوة، والحسد، والشراهة، والغضب، والكسل، في سبيل تقدمنا داخل النظام السياسي والاقتصادي ذاك. 

تعدّ بدائع الموسيقى المولوية هي أثمن ما في الخزينة الموسيقية التركية

عنصر المعنى، يخيّم على معنائية الأغنية التركية ملامح الحزن وقسماته الروحية التي تظهر في قلق الانفصال، وقلق الوصال، وقلق المجتمع، وقلق الظروف، ما يُحيلنا تلقائياً على الوجودية في الحبّ التركي، فهو ليس عدمياً أو عبثياً مثل نظيره الغربي، ولكنّه تحديداً حزن في التراث القومي؛ يصوّر أزمات وجودية ألمّت بالأمّة التركية وتفاعلاتها مع الأطر الثقافية المختلفة، إن كانت هذه الأطر تحت جناحها أو لم تكن آنذاك أو الآن. فالأغاني والألحان بنات جيلها، وهي مرتبطة بالأحداث والذاكرة الجماعية والفردية لمن يؤلّفها. كذلك تتشابه تشابهاً كبيراً مع أزمات وجود مجتمع عربي متحضّر، منتقل من البداوة إلى الحضرية. فضلاً عن قلاقل الحروب الصحراوية القبائلية العربية وعدم الانتظام في سيرورة استقرارية واحدة. 

عنصر الأسلوب من جهة غرضها؛ إنّ أسلوب الأغنية التركية في بدايتها وحتى نهايتها أسلوب تقليدي من الشعر العربي وتحديداً الجاهلي، فقواعد الأسلوب فيها أربعة: اللوعة، والرهبة، والطرب، والغضب. فمع اللوعة يكون البكاء والتحسّر، ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف، ومع الطرب يكون الشوق ورقة النسيب، ومع الغضب يكون الهجاء والوعيد والعتاب، وبالطبع يحصل تغليب قاعدة على قاعدة في أسلوبيتها مراعاةً لمقتضى الحال. كما تغلب عليها الصور البيانية من تشبيه واستعارة، بالإضافة إلى توظيفها عدداً من المحسّنات اللفظية والمعنوية داخلها. أيضاً تعمل على تصوير الطبيعة وعناصرها، وتمثيل الحياة فيها. بالإضافة إلى لغتها التي تتميّز بجزالة الألفاظ والتراكيب، وبخاصة الأغاني التركية الكلاسيكية. 

تركيا تلبس قشرة العلمانية والروح صوفية 

عنصر الخيال؛ العناصر تلك كلّها مجتمعة تدعم عنصر الخيال، فهي تشجّع على الاعتراف بالحبّ من شخص كان لا يؤمن بالحبّ، ليجرّب هو الآخر لوعة الحبّ، تحديداً كما في قصائدنا الجاهلية. فإذا كنت لا تستطيع الحب فتستطيع؛ فالحبّ هنا فريضة حتى لو لم تستطع إليه سبيلاً. وإذا لم يكن لديك حبيب ستتّخذ أو تتخيّل واحداً. وإذا ما استطعت الخيال فستحبّ حالتك العاطفية في أثناء الاستماع. ليس لديك مهرب من عاطفة الحب في الأغنية التركية؛ فلو كنت وحشاً أو ذئباً أو غولاً ستجد طريقك نحو الحب، كأنّك بذلك تستمع إلى قصيدة عربية من العصر الجاهلي في سوق عكاظ أو المربد، ولكن مغنّاة بأسلوب معين في سوق الاستديوهات. كما تجدر الإشارة إلى أنّ معظم الملحنين الموسيقيين الأتراك كانوا من المولوية (الصوفية)، ومن ثم تعدّ بدائع الموسيقى المولوية أثمن ما في الخزينة الموسيقية التركية. وهذا ما يفسر فنياً ارتباط، معظم، إذ لم تكن كلّ الأغاني التركية، بقيم الحبّ والوجد والهيام. فتركيا تلبس قشرة العلمانية والروح صوفية. 

في الختام لا يعدّ التداخل المعنائي والفني حكراً على الحالتين العربية أو التركية، بل هو ظاهرة عالمية، تزداد باطراد بين الثقافات التي تتشابه في أدبها وموسيقاها وتراثها الفني والتاريخي، كما يكثر استلهام المعاني من الثقافات المهيمنة عالمياً، أو على الأقلّ تلك المرتبطة بأهداف "جيووجدانية" واحدة. كما خلُصنا إلى خلاصة أنّ الأغنية التركية ليست فقط تركيبة عربية، بل تركيبة أدبية تتضافر فيها جميع العناصر الأدبية (العاطفة، المعنى، الأسلوب، الخيال) لتخرج لنا أغنية تركية أدبية أكثر منها فنية.  

مصطفى أمين
مصطفى أمين
كاتب وشاعر من لبنان، حاصل على بكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية. مهتمّ بالفكر والأدب والفنون والمسرح.