الأحزاب السياسية ومعضلة السلطة
مما لا شك فيه أنّ الأحزاب السياسية هي أساس الأنظمة الديمقراطية، فلا يمكن تصوّر مشهد سياسي ديمقراطي بدون أحزاب، لذلك يُعتبر وجود الأحزاب ضرورياً لتأطير الشعب وتنظيمه حتى يمارس حقه في الانتخاب من جهة، وكذا إدراك حاجيات الناس وآرائهم من جهة أخرى.
لكن في وطننا العربي، يحدث استثناء نادر، فعلى الرغم من كثرة الأحزاب، إلا أنّ معظم القادة ورؤساء الحكومات غير منتمين إلى أيّ تيار حزبي، بل وتنامت في الآونة الأخيرة ظاهرة فوز المرشحين الأحرار بمقاعد كثيرة في البرلمانات والمجالس المحلية العربية. إذاً، فما الحائل بين الأحزاب والسلطة في الوطن العربي؟
لفهم هذه المعضلة، وجب علينا تشريح العناصر الأساسية المكوّنة للمشهد السياسي العربي، وهي الأحزاب السياسية، والشارع أو الجماهير، والأنظمة الحاكمة.
تعود النواة الأولى لتشكّل الأحزاب السياسية في الوطن العربي إلى عهد الخلافة الراشدة، حيث تأسست الأحزاب السياسية العقائدية كالشيعة والخوارج، ولكن ظهور الأحزاب بالمعنى الحديث لم يكن إلا خلال القرن التاسع عشر، في الفترة الممتدة من الحكم العثماني إلى الاحتلال الأجنبي للوطن العربي، وهذا ما يجعلنا نفرّق بين نشأة الأحزاب الغربية والأحزاب العربية، فالأولى جاءت كنتيجة طبيعية للعمل البرلماني، أما الثانية فكانت نتيجة للأخطاء التي قامت بها الدولة العثمانية وكردّ فعل للاحتلال الأجنبي.
رغم اختلاف الآراء بين المفكرين والقانونيين في تعريف الأحزاب السياسية، إلا أنّه يمكننا تعريف الحزب بأنه مجموعة من الأشخاص الذين يؤمنون بأفكار سياسية يسعون لتحقيقها عن طريق جمع أكبر عدد من المواطنين حولها بهدف الوصول إلى السلطة أو التأثير على قرارات السلطة الحاكمة. هذا التعريف، يمكنّنا من جمع العناصر الأساسية التي تكوّن الحزب، وهي الإيديولوجية أولا، حيث إنّ لكل حزب إيديولوجية ومذهب سياسي يؤمن به ويسعى إلى تطبيقه. أما العنصر الثاني، فهو التنظيم، أي لكلّ حزب هياكل وقواعد على المستوى المحلي تساعده في العملية الاتصالية مع المواطنين. وثالث العناصر هو الهدف، ويمثّل الغاية من تأسيس الحزب، وتكون غالباً الوصول إلى سدّة الحكم. أما آخر العناصر، فهو الالتفاف الشعبي، بحيث لا يمكن تصوّر حزب بدون جماهير مساندة لأفكاره.
ما يميّز الأحزاب عن بعضها عنصران جوهريان هما، آليات اتخاذ القرار الحزبي والديمقراطية داخل الأحزاب. وحديثنا عن آليات اتخاذ القرار الحزبي، يأخذنا للكلام عن معايير أساسية تتمثل في درجة الاستبداد عند اتخاذ القرارات الحزبية، المؤسسات الحزبية والانفرادية في القرار. وأخيرا التشاركية واحترام القوانين الداخلية للأحزاب. أما الديمقراطية الحزبية فهي التداول السلمي المنطقي للقيادة داخل الأحزاب وفق آليات انتخابية دورية ونزيهة.
لا يمكن تصوّر حزب بدون جماهير مساندة لأفكاره
إسقاط الخصائص والعناصر الجوهرية في تكوين وديمومة الأحزاب على ما تعيشه هذه الأخيرة في الوطن العربي، يجعلنا ندرك مباشرة أنّ الأحزاب العربية تعاني هيكلياً وتنظيمياً، فما عدا الإسلاميين والاشتراكيين والقوميين، فإنّ معظم الأحزاب بدون إيديولوجيات ومذاهب سياسية تجعل الجماهير تلتفّ حولها، أما من حيث التنظيم والمؤسسة الحزبية فالمشكلة أكبر، لأنّ معظم الأحزاب بدون مؤسسات حقيقية تجعلها منتجة للأفكار والبرامج.
نعم تناضل الأحزاب من أجل الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، لكنها تفتقر لذلك داخل هياكلها، وهذا ما يجعلها أمام تناقض كبير، جعل الجماهير تتوجّس خيفة منها، وجعلت منها مجرّد تجمعات لأشخاص ومتقاعدين بعيداً عن المغزى الأساسي لتكوين الحزب.
قد تكون الأحزاب الإسلامية استثناءً في الوطن العربي من حيث التنظيم وآليات اتخاذ القرار والديمقراطية الحزبية، ورغم تحقيقها نتائج مبهرة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إلا أنه سرعان ما تتراجع وتنتكس تجربتها، وهنا معضلة أخرى.
في قراءة مركزة لتجربة الإسلاميين في السلطة، تجعلنا أمام مشكلتين أساسيتين، الأولى تتمثل في تشتّت القرار الحزبي داخل هذه الأحزاب بين القرار الداخلي والقرار الخارجي، أو ما يُعرف بالتنظيم الدولي. ثانيا، فقدان الجرأة في اتخاذ القرارات المصيرية والحاسمة، خوفاً من اختلال التوازنات مع حلفائها أو مع أجنحة داخل السلطة، والمفارقة العجيبة أنّ تلك التحالفات أو الأجنحة هي من تكون سبباً في خروج الإسلاميين من السلطة بخفّي حنين.
الشارع هو العنصر الأساسي في المشهد السياسي، فبدونه لا وجود لأي ديمقراطية
الشارع أو الجماهير، هو العنصر الأساسي في المشهد السياسي، فبدونه لا وجود لأي ديمقراطية، حيث تُعتبر الشعوب العربية من أكثر الشعوب اهتماماً بالسياسة، لكنها الأقل انخراطاً في الأحزاب والأكثر عزوفاً عن الانتخابات. ويعود ذلك لعدّة أسباب، منها فقدان الثقة في الانتخابات كأداة للتداول السلمي للسلطة، وكذا الأداء السيئ للأحزاب، ما جعل المواطنين ينفرون منها، أضف إلى ذلك الحالة الاجتماعية السيئة للدول العربية، ما جعل البحث عن لقمة العيش أولوية مطلقة على حساب أمور أخرى، كالنضال والانخراط في الأحزاب.
وبابتعاد الشارع العربي عن المشاركة السياسية، فقدت الأحزاب عنصراً مهماً يُسهّل وصولها إلى السلطة.
في المقابل، تعتبر الأنظمة العربية الأكثر تعقيداً في العالم من حيث تركيبتها، فهي مزيج هجين بين رجال السياسة ورجال المال والمؤسسة الأمنية، وهذا ما يجعل تقبّلها للتداول السلمي على السلطة في مناصب معينة صعباً، وفي مناصب أخرى ممكناً، هذا المزيج الهجين في تركيبة الأنظمة الحاكمة العربية جعل الأحزاب تهمل البرامج والأفكار وتبحث عن التموقع والتقرّب من أصحاب الحكم، ما أدى إلى طغيان الأنا داخل القيادات الحزبية والابتعاد عن التنشئة السياسية والتكوين داخلها، خوفاً على مناصبها، ما جعلها مجرّد هياكل فارغة وقوافل انتخابية فقط.
رغم الانتكاسة الديمقراطية في الوطن العربي بسبب معوقات كثيرة، منها حزبية داخلية، وأخرى متعلقّة بطبيعة الأنظمة الحاكمة، إلا أنّ الأمل يبقى قائماً في تحوّل ديمقراطي حقيقي يخرج الأمة العربية من الحالة السيئة التي تعيشها إلى مستقبل أفضل يجعلها في مصاف الدول الكبرى عالمياً، فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.