احتجاجات إيران.. ماذا بعد؟!
شهران أوشكا على الانتهاء وجذوة الاحتجاجات في إيران لم تنطفئ بعد، وإن خفتت في بعض الأيام، شهران اتسعت خلالهما الفجوة بين السلطة والشارع المحتج، بين ما يطالب به المتظاهرون وبين حدود ما تقبله السلطة.
كلّ يوم ينصرم، تنقطع معه خيوط رقيقة كانت تصل منظومة الحكم بالشارع. وحتى لو نحّينا المطالب "المتطرفة"، واكتفينا بما دون ذلك، نجد أنه من الصعب على السلطة القبول بها بعد أن عُرّفت باعتبارها جزءاً من هوية النظام السياسي (كمطلب إلغاء قانون الحجاب الإجباري)، حيث إنّ التخلّي عنها يهدّد بتغيير ملامح النظام السياسي، بعد أن سار عليها أكثر من أربعة عقود.
المطالب "المعتدلة" موزّعة على الحريات الاجتماعية والمدنية، على إنهاء أشكال الفساد والمحسوبية، على معالجة الأزمة الاقتصادية، على تحسين العلاقة مع الغرب ودول المنطقة، وتخليص البلاد من عزلتها الدولية والإقليمية، وأخيراً مطلب تعديل الدستور تعديلاً "أساسياً"، وربما قاد إلى تغييره بالجملة ليكون موائماً لحاجات الجيل الجديد والمجتمع الجديد، بعد أن خدم جيلاً مختلفاً عن الجيل الحالي، فكراً وثقافة وانتماءً، كما ورد في خطبة إمام جمعة محافظة بلوشستان قبل أيام.
تلك هي المطالب الأساسية للاحتجاجات في إيران، ويمكن للمتحرّي باستقصاء أن يصنّف كلّ هتاف تحت هذه العناوين الرئيسية.
إنّ ضعف التجربة الشعبية في التظاهر والعجز عن قولبة المطالب وعرضها بشكل منطقي، جعل حركة الشارع تبدو وكأنّها "متمرّدة" على كلّ شيء و"فوضوية" تجاه ما تريد، الأمر الذي سهّل مهمة السلطة في إلصاق ما شاءت من تهم بالمتظاهرين، بدءاً بـ"مثيري الشغب" ومروراً بـ"الانفصاليين" و"الإرهابيين"، وليس انتهاءً بـ"الجواسيس" الذين ينفّذون إرادة "العدو" (الأميركي الإسرائيلي).
إننا أمام عالمين متباعدين، عالم السلطة وعالم الشارع
لكن ورغم استمرار السلطة باتهام الدول الأخرى، وبينها دول عربية (كالعادة)، في تأجيج الاحتجاجات وتعميم أعمال الشغب المحدودة على المظاهرات كافة، فإنّ الحركة الاحتجاجية لا تزال مستمرة، وبعناد مثير، أبطل كثيراً من تحليلات الباحثين والمراقبين للشأن الإيراني.
ماذا بعد يا ترى؟ هل يستمر الطرفان بالشدّ، أملاً في إرهاق الآخر وإجباره على التراجع؟ هل يجمع سقف واحد المتظاهرين والسلطة؟ هل نشهد انشقاقات في الداخل؟ هل نشهد أحداثاً دولية أو إقليمية تتقزّم أمامها أزمة الاحتجاجات؟ هل احتمال الفوضى وارد ممكن؟
قد نشهد أيّا من هذه السيناريوهات، إلا أن يجلس الطرفان تحت سقف واحد، ذلك أن قطيعة معرفية تحول بين الطرفين المتخاصمين، لأنّ العقلية التي تحدّد سياسات الدولة في إيران مختلفة بنيةً عن عقليةٍ ترعرعت تحت ظلال الثورة المعلوماتية وأدوات الاتصال الحديثة التي زعزعت حدود الدول، ولم تعد منيعة أمام موجات التأثير سلباً وإيجاباً. إنّ الحاكم والمحكوم اليوم في إيران لم يعودا يستوعبان بعضهما البعض، نتيجة إصرار الأول على اقتفاء النهج القديم في الحُكم، تشريعاً وتنفيذاً وتبريراً، وعناد الآخر على المشاركة والمحاسبة والمساءلة. التضاد المعرفي هذا، بين طرفي الأزمة جسّدته تصريحات وزير التراث الثقافي الإيراني، عزت الله ضرغامي، في روايته عن أحد المحققين "الكبار" الذي قال له إنه "لا يفهم ما يقوله هؤلاء (المتظاهرون المعتقلون) ولا هم يستوعبون ما يقوله لهم أثناء جلسات التحقيق والاستجواب".
ماذا يعني ذلك ثقافياً واجتماعياً وسياسياً؟ إننا أمام عالمين متباعدين، عالم السلطة وعالم الشارع، والسلطة تعترف ضمناً بالشرخ المتزايد بينها وبين الشارع، ومع ذلك تفتقد للأدوات التي تمكّنها من ترقيع هذا الشرخ وتخييط ما مزّقته أربعة عقود عجاف.
الشارع اليوم يصنّف كلّ من شارك في المشهد السياسي في خانة واحدة
وفي جانب آخر من الأزمة، نلاحظ غياب التصنيفات السياسية لدى الشارع المحتج، إذ لم يعد المتظاهرون يرون أنفسهم منتمين إلى تيار من التيارين (الإصلاحي أو الأصولي)، فالشارع اليوم يصنّف كلّ من شارك في المشهد السياسي في خانة واحدة. وقد أدرك الإصلاحيون وقياداتهم هذه النظرة "الرافضة" للجميع، ما جعلهم يُحجمون عن دعم الاحتجاجات ومساندتها خوفاً (ربما) من المحاسبة المحتملة في حال تحوّلت الاحتجاجات إلى ثورة جارفة.
لكن بتقديرنا، أنّ الخوف هنا غير مشروع، لأن الدعم العلني للمتظاهرين والدفاع عن مطالبهم بحرارة سيغيّر من واقع الشارع، وسرعان ما يلتف المتظاهرون حول هذه القيادة (وما أحوجهم لها). طبيعي أن يضع الشارع، الإصلاحي والأصولي، وكلّ من شارك في صناعة المشهد السياسي، ماضياً وحاضراً، في خانة واحدة، لأنه يراهم مؤيدين للوضع الحالي، جهراً أو صمتاً.
إنّ أفضل الحلول وأسلمها لإيران، شعباً ونظاماً، هو أن تتبنّى مجموعةٌ من النخب السياسية المعتدلة وأساتذة الجامعات البارزين مطالبَ الشارع بشكل "لا مجاملة فيه"، وتُقدّم (بعد تهذيبها) إلى السلطة الحاكمة، وتحديداً إلى شخص المرشد علي خامنئي دون استحياء، لإيجاد حل ينقذ البلاد، ربما.