إعادة تعريف "إسرائيل"
ليس في ذمّةِ التاريخ فعلٌ أشدُّ مأساويّةً من فعلِ الاحتلال. وترجعُ هذه المأساويّةُ إلى أنَّ الاحتلالَ حدثٌ لا ينتجُ عن ثُنائيَّةِ "الحقِّ والباطل"، وإنَّما عن ثُنائيَّة "القوّة والضّعف". ولعلَّه من بديهياتِ السِّياسة وألف بائها أنَّ "القوّة والضّعف" هي الثنائيّة الوحيدةُ التي تحكمُ عالمَ السِّياسة، وكلّ ما عداها من ثُنائيّاتٍ وفرديّاتٍ إنَّما هو محكومٌ لها. ولعلَّ أوَّل ما يَردُ إلى ذهنِ أحدنا عند ذكر الاحتلال هو "إسرائيل".
يشكّلُ الاحتلالُ، في ذاته، ثُنائيَّةً مفادها أنَّه فعلٌ إنسانيٌّ بقدر ما هو لاإنسانيٌّ؛ فهو إنسانيٌّ لأنَّ الإنسانَ هو المخلوقُ الوحيدُ الذي يرتكبُ فعل الاحتلال. قد يُقالُ أنَّ بعض أنواع الحيواناتِ تحتلُّ "أرض" حيواناتٍ أخرى، وهذا صحيحٌ. لكنَّ الاحتلال الحيواني، إذا جاز التّعبير، يمثّلُ صورةً من صورِ "النِّظام" الذي يحكمُ مملكةَ الحيوان. أمَّا الاحتلالُ الإنسانيُّ فهو روحُ الخروجِ عن "النِّظام"، ومن هنا هو فعلٌ لاإنسانيٌّ لما فيه من تجرّدٍ من الانتماء إلى بني الإنسان. وبعيدًا عن أيِّ اختلافٍ في تعريفاتِ مصطلحِ الاحتلالِ، إنَّ الحدَّ الأدنى الذي يُفترضُ أن لا اختلاف فيه هو وجود طرفين، أو كيانين أو دولتين، يرتكبُ أحدهما فعل الاحتلال بحقِّ الآخر.
من هنا، إنَّ وصف "إسرائيل" بالاحتلال هو وصفٌ غير دقيقٍ. إنَّما هو "إحلالٌ"؛ أي أن يُؤتى بشعوبٍ لتحُلَّ محلَّ شعبٍ، بعكس الاحتلالِ الذي يعني أن تقومَ حكومةُ شعبٍ بالاعتداءِ على حدودِ حكومةِ شعبٍ آخر؛ أي أنَّ الاحتِلال لا بُدَّ له من كيانين سابقين في وجودهما على ارتكاب فعل الاحتلال. بعبارةٍ أُخرى، إنَّ تسميةَ "إسرائيل" بـ"دولة الاحتلال" هي تسميةٌ دبلوماسيَّةٌ تحملُ في داخلها اعترافًا، أو افتِراضًا على الأقلِّ، بوجودٍ مُسبقٍ لكيان "إسرائيليٍّ" قام بالاعتداءِ على فلسطين. في حين أنَّ الحالة التي تُمثّلُ الاحتلال بمعناه الحقيقيِّ هي الاحتلالُ البريطاني- الفرنسي للمنطقة، الذي أنشأَ "إسرائيل" ثم غادر تاركًا سؤالًا مُؤدَّاه: هل جاءَ لإقامتها أم أقامها لكي يبقى بعد انسحابه؟ ولعلّه من الضَّروريِّ في مكان إعادةُ النَّظرِ في الدَّوافِعِ الحقيقيَّة وراء التَّأكيد على مُصطلحِ "الانتداب" عند وصف الحالة البريطانيَّةِ - الفرنسيَّة في المنطقة، والتَّأكيد على مصطلحِ "احتِلال" عند وصف سيطرة "إسرائيل" على الأراضي العربيَّة بعد حرب 1967. ومن هنا، ثمّة ضرورةٌ وجوديَّةٌ لنا، نحن العرب، في إعادة تعريفِ "إسرائيل"، إذ إنَّ المعركةَ الأساس في هذا الصِّراعِ الوجوديِّ باتت معركةَ مفاهيمَ وتسمياتٍ.
لم يفعلْ بنا أعداؤنا أكثر من الذي فعلناه بأنفُسِنا!
عودًا على ثُنائيّتي "الحق والباطل" و"القوّة والضّعف": ثمَّة حالةٌ نعيشها، نحن العربَ، يُمكنُ تسميتها بـ"اختلال الميزان السِّياسيِّ". واقع أمرنا أنَّنا لم نزل ضُعفاءَ في حقِّنا وأقوياء في باطلنا، بينما "إسرائيل" قويَّةٌ في باطلها ضعيفة في حقِّها. وبدل أنْ نُبرهنَ للعالم على حقِّنا ونكذِّب أباطيلنا فإنَّنا لم نزل نُبرهنُ للعالَم على أباطيلنا ونُبرهنُ لأنفُسنا على حقِّنا! وإذ أقول "أباطيلَنا" فليس لأنفي أنَّ الكثير من هذه الأباطيلِ يُلحقُ بنا بغير وجه حقٍّ. بيد أنّ أحد أباطيلنا وكوارثنا هو أنَّنا "جسمٌ لبِّيس"، بالتعبير الشّعبي اللبنانيِّ، لما ينسجُ لنا وعلينا من أباطيل. وإذا كانَ ثمّة مكانٌ ههنا لسؤالٍ قد يسألُ، فإنَّه بلا ريبٍ: إذا كنّا نحن عابثين بأنفسنا، فكيف للعالمِ ألَّا يعبثَ بنا وبحقِّنا؟!
يبدو أنَّنا في حاجةٍ ضروريَّةٍ لوجودنا على هذه الأرضِ إلى أن نضعَ ذاتنا المُتورِّمةَ أمام المرآة، وأن نعترفَ بهزيمتنا كما ينبغي للاعتراف بالهزائم أن يكون؛ اعترافًا لا يجعلنا نجيدُ صناعة الهزيمة. وليس من باب المبالغةِ أنَّ النصر الحقيقيَّ أحيانًا لا يكون إلّا في الاعتراف بالهزيمة. وبالتَّالي، لن نجني كبير منفعةٍ حين نعيدُ تعريف "إسرائيل" دون إعادةِ تعريف أنفسنا. إذَّاك نستطيع، في عالمٍ تحكمه ثُنائيَّةُ "القوَّة والضَّعف"، ألَّا نكونَ شهداءَ على براءةِ قاتلنا. إذَّاك نستطيعُ أن نتخلَّصَ من عقدةٍ مُستحكمَةٍ في قعرِ الذَّاتِ العربيَّةِ المُتورِّمةِ من كثرةِ الهزائمِ التي انتصرناها، أو الانتصاراتِ التي هُزمناها على روايةٍ أُخرى. عقدةٌ يمكنُ كتابتُها على ستٍّ وسبعينَ صفحةٍ بحجم الجغرافيا العربيَّةِ، ويمكنُ أنْ نكتُبَها بتسعِ كلماتٍ في أقسى صورةٍ ممكنةٍ لترتيبِ الكلمات: لم يفعلْ بنا أعداؤنا أكثر من الذي فعلناه بأنفُسِنا!