إعادة النظر في الرواية الاستشراقية كشكل من أشكال المقاومة

14 نوفمبر 2024
+ الخط -

مع تصاعد الأحداث المأساوية في فلسطين، من الحروب المستمرّة على غزّة إلى عمليات التهجير القسري ومحاولات طمس الهوية الفلسطينية، يتجدّد السؤال حول دور المعرفة التاريخية كأحد أشكال المقاومة؛ إذ إنّ مقاومة الاحتلال لا تقتصر فقط على الكفاح المسلح، بل تتجاوز ذلك إلى المقاومة الثقافية والأكاديمية. وإنّ إدراكنا تاريخ منطقتنا هو أداة فعالة لمواجهة الروايات المزيّفة التي يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى فرضها على العالم، وذلك من خلال سلاح ثقافي متمثّل في الاستشراق. 

الاستشراق وإعادة صياغة التاريخ

وفقًا لإدوارد سعيد، الاستشراق ليس مجرّد مجال أكاديمي، بل يمثل "معرفة كولونيالية" انبثقت عن شعورٍ بالتفوّق الأوروبي على الشرق. بحيث جرى تصوير الشرق بأنّه آخر "متخلف" مبرّرين احتلاله واستعماره. وقد استغلّت القوى الإمبريالية هذه المفاهيم لدعم مشروع إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، متجاهلة الحقائق التاريخية والأركيولوجية المتعلّقة بالمنطقة. فلم يكن البحث التاريخي والأثري في فلسطين، وفي الشرق، مجرّد محاولة نزيهة لإعادة بناء الماضي، بل كان جزءًا من مشروع مرتبط بالهوية وموازين القوى في العالم الحديث. ومع تحوّل الاستشراق إلى مؤسّسة أكاديمية، ازدادت الشكوك حول أهدافه، خاصّة مع ارتباطه بمراحل الاستعمار.

وهذا المشروع أفرز خطابًا غير علمي حول الأعراق، متظاهرًا بالبحث الأكاديمي الجاد، بينما كان يخدم هيمنة الغرب. من هنا، أصبح من الصعب فصل الاستشراق عن السياق الإمبريالي منذ عام 1798، إذ ركزت الجهود الأوروبية على إنتاج "معرفة استعمارية" قائمة على الكتاب المقدّس، ممّا أسهم في تصوير الفلسطينيين كامتداد للعصور التوراتية. وقد أدى ذلك إلى تأسيس جمعيات مثل "صندوق استكشاف فلسطين" عام 1865، الذي سعى لدراسة الآثار والجغرافيا لتأكيد الروايات التوراتية، تبعته جمعيات أخرى أميركية وأوروبية ذات أهداف دينية وسياسية، ممّا عزّز النفوذ الغربي في فلسطين.

إعادة النظر في الجغرافيا التوراتية

إضافة إلى ذلك، يبرز دور كمال الصليبي الذي قدّم أطروحات جريئة في كتابه "التوراة جاءت من جزيرة العرب". ويجادل الصليبي بأنّ الجغرافيا التوراتية التي اعتمدت عليها الرواية الصهيونية لتأكيد حقِّ اليهود في فلسطين ليست دقيقة، كما يشير إلى أنّ الأحداث التوراتية ربّما وقعت في مناطق أخرى من شبه الجزيرة العربية.

ننظر إلى تاريخنا بعيون الآخر، ونتبنى سرديات استعمارية دون أن ندرك ذلك

وهذه الأفكار تفتح الباب أمام إعادة التفكير في الجغرافيا التاريخية لفلسطين وتفكيك الرواية التي تعتبرها أرضًا "موعودة" لليهود. علاوة على أطروحات فاضل الربيعي الجريئة، وذلك من خلال مؤلفاته العديدة مثل كتابه "القدس ليست أورشليم" الذي أوضح فيه، وبأدلة من التوراة نفسها، على زيف الارتباط بين القدس وأورشليم، وعلى أنّ غالبية المناطق والمسميّات التي جرى ذكرها في الكتاب المقدّس إنّما هي أسماء مدن يمنية ما زالت موجودة إلى الآن، مستندًا في ذلك إلى كتاب "الإكليل" للهمداني الذي تحدّث فيه عن أخبار اليمن وأنساب حمير. 

ضرورة إعادة كتابة تاريخنا بأقلامنا

من الواضح أنّ معظم مناهج التعليم في العالم العربي متأثرة بالسرديات التاريخية التي فرضها المستشرقون والمستعمرون، ممّا يؤدي إلى تبني رؤية مشوّهة لتاريخ منطقتنا. إذ نعارض الوجود الإسرائيلي في المنطقة، فيما مناهجنا الدراسية والأكاديمية متماهية مع الرواية الاستشراقية الصهيونية، التي تتحدّث عن وجود تاريخي لمملكة يهودا والسامرة في فلسطين!

وهذا التناقض يعكس كيف أنّنا ننظر إلى تاريخنا بعيون الآخر، ونتبنى سرديات استعمارية دون أن ندرك ذلك. وبالتالي وجب علينا أن نقاوم هذه السرديات بإعادة كتابة تاريخنا، متحرّرين من تأثير الاستشراق.

إنّ إعادة قراءة تاريخ منطقتنا، من منظورنا الخاص، ليست مجرّد ممارسة أكاديمية، بل هي شكل من أشكال المقاومة الثقافية. فكما أنّ السلاح ضروري للدفاع عن الأرض، فإنّ المعرفة ضرورية للدفاع عن الهوية. يجب أن نعتمد على أبحاثنا الأكاديمية وإنتاجنا الفكري لإعادة صياغة السرد التاريخي لفلسطين والشرق الأوسط.