إصلاح قطاع الأمن: أزمة المصطلح
يعدّ مفهوم إصلاح قطاع الأمن من المفاهيم الحديثة نسبياً في الخطاب الأمني، وهو نتاج لتغيّرات دولية ومجتمعية في التفكير الأمني، ويشير بشكل عام إلى العلاقة الإيجابية بين قطاع الأمن والقيادة المدنية (الديمقراطية) والمجتمع.
ومن الناحية المؤسّسية، فإنّ القطاع الأمني قطاع واسع يتألف من الهياكل والمؤسسات التي تقع على عاتقها مسؤولية توفير الأمن وإدارته والإشراف عليه، بما في ذلك أفراد تلك المؤسسات. وتعمل هذه الأجهزة ككيانات تنفيذية على المستويين الوطني والمحلي، ويُصطلح على تسميتها "المؤسسات الأمنية"، مثل الجهاز العسكري، وجهاز الشرطة، وأجهزة المخابرات، بما في ذلك الجمارك والإدارات والمؤسسات التي تمتد من حرّاس الأمن الخاص إلى السلطات القضائية والعدلية. وقد تختلف التسميات والهياكل التنظيمية من دولة إلى أخرى، لكنها تبقى أبرز الأجهزة الممثلة للدولة في نظر المواطنين، لذا يسعى هذا المقال لتوضيح وتفسير كيف أنّ مصطلح "إصلاح قطاع الأمن" ذاته (وليس العملية)، يمكن أن يمثّل جذر أزمة غير ملموسة للقائمين على أمر الإصلاح.
يبرز متطلّب إصلاح قطاع الأمن عندما يعجز عن منع النزاعات العنيفة وحماية السكان من الأخطار بسبب انعدام المهنية والاحترافية، أو عندما يكون هو السبب في تلك النزاعات بسبب الخضوع للاستغلال السياسي، ليستخدم كأداة للقمع والترهيب وانتهاك حقوق الإنسان، الأمر الذي يؤدي إلى عدم الاستقرار وانعدام الأمن. ويهدف إصلاح قطاع الأمن، بوصفه عملية سياسية تقنية، إلى تأهيل القطاع الأمني بالقدر الذي يُمكنه من تحقيق أمن الدولة وأمن مواطنيها بكفاءة ومسؤولية، وقد تطوّر المفهوم كردّ فعل على الإخفاق في معالجة قضايا الأمن البشري.
من ناحية العلوم السياسية، رُبط إصلاح القطاع الأمني مباشرةً بحالات انتقال الدول ما بعد الصراع والسلطوية نحو دولة ديمقراطية، وبالرغم من وجود إجماع على أنّه ليس هناك وصفة ثابتة تحقّق الانتقال الديمقراطي الناجح، إلا أنّ هناك إجماعاً على أنّ عدم اتخاذ ما يكفي من التدابير لإصلاح قطاع الأمن يعتبر سبباً كافياً لفشل محاولات الانتقال، كذلك فإنّ عملية الإصلاح ذاتها تختلف في سياقها من حالة إلى أخرى، وقد صعدت المؤسسة العسكرية كأولوية في القطاع الأمني بوصفها ذات التأثير الأكبر في وأد العمل السياسي أو استمراره.
يهدف إصلاح قطاع الأمن، بوصفه عملية سياسية تقنية، إلى تأهيل القطاع الأمني بالقدر الذي يُمكنه من تحقيق أمن الدولة وأمن مواطنيها بكفاءة ومسؤولية
عملياً، يتوقف التقدّم في برامج الإصلاح العسكري على قدرة الجهات المنفذة للإصلاح على تقليل مستوى التوتر والصدام مع المؤسسة العسكرية، بالتالي فإنّ مدى تعاون الفاعلين العسكريين يكتسب أهمية ينتج منها خفض احتمالات المواجهة بين المدنيين والعسكريين.
وقد سلّطت دراسة الدكتور سيد أحمد قوجيلي، "الدراسات الأمنية النقدية: مقاربات جديدة لإعادة تعريف الأمن" الضوء على إسهامات المدارس الأمنية في الحقل الأمني، التي كان من بينها مدرسة كوبنهاغن الأمنية، والتي كان من ضمن إسهاماتها في تسليط الضوء على الجوانب غير الملموسة، والتي يمكن اعتبارها تهديداً، وذلك بتبنيها لنظرية الأمننة، باعتبار أنّ التهديد يمكن أن يكون نتاج علاقة اجتماعية في الأساس يظهر بظهور علاقة عداء، بالإضافة إلى كون التهديد ممارسة خطابية عندما يقرّر الجمهور أو الفواعل تناول قضية بمصطلحات أمنية ليحدّد ما هو آمن وما هو تهديد، ويعتبر أنصار المدرسة أنّ أمننة القضايا شيء سلبي، إذ بإمكان السلطة استخدامها للتعامل مع القضايا وفق سياسة الطوارئ، الأمر الذي يعني تعليق الإجراءات القانونية والديمقراطية وتقليص الحريات، بمعنى إيقاف السياسة العادية.
وفي هذا السياق، وبالرغم مما يحمله مصطلح إصلاح قطاع الأمن عموماً والإصلاح العسكري خصوصاً من معنى إيجابي، وبالرغم من الأهداف الإيجابية التي يدعو لها، إلا أنّ نظرية الأمننة كانت على الدوام حاضرة، بمعنى تقوم الجهات المقاومة للإصلاح للترويج بأنّ مفردة "إصلاح" هي مُهدّد أمني، وبالتالي التعامل مع كلّ من يطلقها من الفاعلين وفق سياسات الطوارئ، التي يمكن أن تختلف وتمتد من الاعتقال، وصولاً إلى الانقلابات العسكرية.
هناك إجماع على أنّ عدم اتخاذ ما يكفي من التدابير لإصلاح قطاع الأمن يعتبر سبباً كافياً لفشل محاولات الانتقال الديمقراطي
وانطلاقاً من وجهة نظر الكاتب ستيف سميث (النظرية الدولية: الوضعية وما بعدها، 1996) القائلة إن "النظريات لا تشرح الأحداث أو تتنبأ بها فحسب، إنّما تدلنا على الإمكانيات الموجودة للعمل والتدخل البشري ولا تحدّد إمكانيات التفسير المتوافرة لدينا فحسب، بل وتحدّد أيضاً آفاقنا الأخلاقية والعملية"، بمعنى أنّ الواقع الموجود يُمَّكِنُنا من اختبار النظريات، وحيثما تمّ تناول النظرية بحيث تكون في مواجهة الواقع القائم كانت الكثير من المصطلحات في القضايا الأمنية سبب في انتكاسات أو كادت أن تكون على أقل تقدير، وكما أشارت الباحثة، فيرونيك دودوي، في دراسة منشورة لمركز أبحاث بيرغهوف (2009) بعنوان "من الحرب إلى السياسة: حركات المقاومة والتحرير في طور الانتقال"، فإنّ الحساسية تجاه المفردات المستخدمة كانت حاضرة لدى أعضاء الحركات المسلحة حينما يطلق مصطلح "نزع السلاح"، الذي كان يُفسّر على أنّه يعني "الهزيمة" و/أو "الاستسلام"، وبينما رُفض المصطلح بقوة في سياقات عديدة، حيث كانت مصطلحات أخرى مثل "تجميد السلاح" "إدارة السلاح" "نزع الطابع العسكري" أكثر مقبولية.
في السياق السوداني، يتضح بوضوح للمتابع للأوضاع بعد توقيع الوثيقة الدستورية في 17 أغسطس/ آب 2019، أنّ مصطلح "الإصلاح" كان عنصراً حيوياً شكّل المشهد العسكري في الفترة قبل الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر/تشرين الأول، حيث تمّ تفسير مصطلح "الإصلاح الأمني والعسكري" بوصفه "تفكيك القوات المسلحة"، وهو المعنى الذي أصبح شائعاً ومتداولاً على مستوى القواعد، ما يعني أنّ المرونة في استخدام المصطلحات يساعد في نزع الأمننة وخفض درجة التوتر والصراع التي كانت سائدة سابقاً، كما يقلّل من خطر التلاعب بالمصطلحات وتوصيفها بحسب التوجهات والأجندة السياسية للفاعلين، إنّ الانتقال لمصطلح "تحديث القطاع الأمني" بدلاً من "إصلاح القطاع الأمني"، وبالتالي "التحديث العسكري" بدلاً من "الإصلاح العسكري"، هذا التغيير سيساهم بشكل كبير في تجنب تحوّل القوات المسلحة إلى كتلة معارضة لجهود الانتقال.