أين هو المتعلّم الفهمان؟
المتعلم ابن بيئته
كانت نظرتي عن عالم المتعلّمين نظرةً رومانسيّةً طُوباويّةً، وذلك لانعدام خوض تجربةٍ سابقةٍ معهم، حيث إنّ أميّة أمي وعدم إتمام أبي دراسته، جعلت منهما أسرة معجبة بكلِّ متعلّمٍ، توّاقة لتعليمي وأختي، فكرّسا حياتهما في سبيل ذلك دون أن يكتشفا أنّهما يملكان الجوهر الحقيقي للعلم في إنسانيّتهما التي يفتقر إليها الكثير من حاملي الشهادات العلمية. وقد لمست ذلك عندما دخلت العالم المهني الذي يعجّ بمختلف المتعلمين الذين يمثلون صور بيئاتهم المختلفة تماماً، كما أمثّل أنا صورة أمّي وأبي في ذاك العالم.
القانون في خدمتنا أم نحن في خدمته؟
إنّ أوّل صورة ساهمتْ في إزالةِ الغشاوة عن عينيّ كانت عندما تأخرت عن دوامي في مدرسةٍ بعيدةٍ عن مكان إقامتي، حيث سبّب ذلك حدوث "ملاسنة" مع مدير المدرسة بعد أن رفض تغيير توقيت حصصي، ليردّ عليّ بسخرية: "بتعرفي المستحيلات السبعة... هي وحدة منن"، ثمّ تابع قائلاً "لا مكان للعواطف هنا"، وهو يدور على كرسيه، مُهدّداً بمجموعةٍ من القوانين الصارمة التي يستطيع أن ينفذها متى شاء.
الحرب بين موظّفٍ وآخر، ومدرّسٍ وآخر، ومهندس وآخر، وطبيب وآخر، وشاعر وآخر... هي حروب منمّقة، وفي كثيرٍ من الأحيان ترتدي الأقنعة
وعلى الرغم من أنّ كلّ ما جرى في العالم حتى الآن، يُثبت أنّ اتباع الحكمة في حلِّ الأمور يُوصل إلى نتائج أفضل ويحقّق درجةً أعلى من الرضا، فإنّ الكثيرين من أصحاب السلطة مُصرّين على الاتباع الأعمى للقوانين دون مرونةٍ أو قدرةٍ على تطويع القانون لخدمتنا. آنذاك، شعرتُ للحظةٍ بأنّ هذه المدرسة ليست أكثر من سورية، نعم سورية مصغرة، وما يجري فيها يمثّل طبيعة الحياة والثقافة السائدة في هذه المجتمعات.
ضجيج عالم المتعلمين
كان ما حدث معي بمثابة صدمة أولى بالنسبة لظنوني الإيجابية عن المتعلّمين، ومنذ ذلك الوقت وأنا يقظة لكلِّ حدثٍ يجري حولي، أبحثُ عن المتعلّم الفهمان الذي أخبرتني عنه أمّي، لأطلب منه الحلّ لمشكلتي، ولكن ما وجدته فعلاً (ومع الأسف الشديد) لم يكن سوى ضجيج عالم المتعلّمين الذي سبّب لي نوعاً من الضياع في بداية تدريسي. فلم تعدْ مشكلتي مع المدير فحسب، وإنّما مشكلتي الحقيقيّة هي مشكلة أجيال قادمة تتعلّم على أيدي تعود بهم إلى الوراء، بدلاً من أن تكون يد عَونٍ لهم ومثالاً يُحتذى به. فأيّ معايير تجعل هؤلاء المتعلّمين في أماكنهم؟ وما مصيرنا الذي سننتهي إليه إن بقي الحال كما هو؟
هل حروب المتعلمين أكثر حدّة وشراسة عن غيرها من الحروب؟
الكثيرون من أصحاب السلطة مُصرّون على الاتباع الأعمى للقوانين دون مرونةٍ أو قدرةٍ على تطويع القانون لخدمتنا
بعد تجربتي المريرة وملاحظتي الدقيقة وجدت أنّ حرب المتعلّمين أشرس من أيّ حربٍ أخرى، الحرب بين موظف وآخر، ومدرس وآخر، ومهندس وآخر، وطبيب وآخر، وشاعر وآخر... هي حروب منمّقة، وفي كثير من الأحيان ترتدي الأقنعة، وتجعلنا في حالةِ شكٍّ ممّا يحدث.
علم أم وعي؟
إنّ إنسان اليوم أحوج ما يكون لأن يعي العلم أكثر من العلم ذاته، فلا يوجد ألذّ من التحدّث مع شخص واعٍ يستطيع فهمك. والشهادة العلمية ليست مقياساً للوعي والفهم والحكمة، بل في كثيرٍ من الأحيان، نجد سهولةً في التعامل مع أشخاص غير متعلّمين، ولا يمتلكون شهادات علمية، مقابل أن نجدَ صعوبةً في التعامل مع المتعلّمين الذين يتباهون بشهاداتهم العالية وتحصيلهم العلمي، لذلك من الظلم أن نصنّف الناس إلى متعلّم وجاهل، فكم من الناس المتعلّمين لم يأخذوا من العلم سوى المزيد من التعصّب لرأي معيّن، إذ نجدهم يُسيئون استخدام العلم في أذيّة بعضهم البعض، مثل المدير الذي يتنمّر على موظّفيه، أو الموظّف الذي يؤذي زميله، أو الأم التي تقسو على أولادها، أو الزوج الذي يفرض سيطرته على زوجته، فيمنعها من ممارسة وظيفتها أو إتمام دراستها. ومقابل ذلك، هناك أشخاص وأفراد غير متعلّمين، يتمتعون بالمرونة واحترام الآخر المختلف عنهم، كالأب الذي يحنو على أولاده، والجار الذي يتقبّل جاره المختلف عنه في الشكل والدين، والزوج الذي يعطي الحريّة لزوجته في ممارسةِ وظيفتها...
وسط هذا القرف الوظيفي والحروب المستعرة بين الجميع في أماكن من المفترض أن يكون الوعي هو الحكم الوحيد فيها، وانعدام وجود معايير تُبيّن من هم أصحاب الكفاءة الحقيقيين، أشعر بالخوف من المستقبل، من أن أصبح، مرغمةً، جزءاً من حربٍ لم أصدّق بوجودها حتى رأيتها وصفعتني نتائجها، لذلك علينا أن نعيدَ النظر، ومن منظارٍ جديد، في كلِّ ما يجري حولنا، محاولين إنقاذ ما تبقّى من إنسانيتنا، من خلال تفعيل دور المتعلّم الحقيقي القادر على صنع ثقافةٍ حقيقيّةٍ تعتمد على الوعي والتغيير، ثقافة إنسانية حيّة لا تنتهي طالما الإنسان موجود، لأنّها فعل خاص به، فهو وحده القادر على صنعها.