"أصل الحكاية ماتضحكش".. عن الجنيه الذي أبكانا

11 يناير 2023
+ الخط -

صحيح أنّ السخرية مخرجٌ للشعوب من همومها، والكوميديا السوداء متنفسٌ يواجه الواقع الكحليّ، وصحيح أنّ في مصر تحديداً تستطيع أن تطلق نكتةً على كلّ شيء، وفي أيّ وقت، وأيّ مكان، وإذا أردت أن تنسى أوجاعك، ولو فقدت عمرك ومالك وحياتك، فاقصص حكايتك على مصريّ، حينها لن يتركك إلا وأنت تخشى الموت من فرط القهقهة وانقطاع النفس، لكن حين يصل الدولار إلى 32 جنيهاً (حتى كتابة هذا المقال)، ويعادل راتب الموظف 80 دولاراً، ويساوي كيلو اللحم ثمن مرتبه، ويعيش الناس في كربٍ وفقر، ويهبط المواطن نفسه كلّ يومٍ طبقةً اجتماعية جديدة، حينها... لا تصلح الكوميديا مهما كان سوادها، لأنها ستكون في صفّ الحاكم، الذي يدعم المسكّنات بشدّة، في ظروف عصيبة كهذه.

من يضحك اليوم في مصر؟ لا أحد، إلا الرئيس في مؤتمراته، بينما المصريون يبكون في بيوتهم، وأعمالهم، وأمام بسطاتهم في الأسواق، وأمام أولادهم على مائدة الطعام، وأمام تلاميذهم في الفصول، وأمام موظفيهم في المكاتب، وأمام عمالهم في المصانع، وأمام الجميع في الشوارع، حالةٌ عامّة من المجهول تحاصرهم، ليست تلك "الحالة الاقتصادية" المتأزمة التي تهدّد العالم كله بكساد عظيم، وإنما "الحالة المصرية" الخاصة، لأسباب لا داعي لذكرها، الكل يعلمها، ولا يقال فيها أكثر مما يُقال.

من أين يأتي الأب بضحكة جديدة لهذا اليوم؟ من أين يشتريها، وبكم؟ وأين تباع النُّكات؟ عند الحلاقين كنّا نجدها، لكنهم صاروا أكثر الناس حزناً، قصصهم المسلية وضعوها في الأرفف بجوار ماكيناتهم الصدئة، وجلسوا ينتظرون الزبون القادم الذي لا يأتي أبداً. في محلات البقالة، بينما يتبضع الناس ويشترون قوت يومهم ويتندرون على اللي بالي بالك؟ لم يعودوا يشترون، المحلات فارغة من الناس، إن غضضنا الطرف عن فراغها من السلع أو نقصها، لأنّ الجيوب فارغة من النقود، والنقود فارغة من القيمة، ولأن كلّ شيء صار بلا قيمة، بلا طعم، ولا رائحة.

من أين يشتري الموظف ابتسامة جديدة يدخل بها على زوجته وهو عائد من عمله وقد دفع 2% من راتبه في مواصلات اليوم، واضرب الرقم في 30 يوماً، ستجده أنفق 60% من راتبه على التنقل وحده، مع أنه يحتاج إلى الـ60% نفسها للإيجار، ونصفها مصاريف الأولاد، وضعفيها للمأكل والمشرب، ماذا يتبقى في جيبه، أو جيب دائنه حتى، ليشتري به ابتسامةً من على الرصيف؟

كلّ النكت صارت ماسخة، كلّ خطَب التنمية البشرية تستحق أن تمزّق في أقرب قمامة، كلّ الابتسامات على الشفاه على شفا الانتحار، كلّ الضحكات لم يعد لها مذاق

الأم، التي تبكي بطبعها أصلاً من قسوة الحال، هل تملك مساحة إضافية في نفسيّتها لتصطنع بها ضحكة تداعب بها أطفالها؟ ثم ماذا ستعدّ لهم؟ هل تغلي لهم الحجارة في الماء الهادر؟ أم تسقّي لهم الخبز في العدس 30 يوماً في الشهر؟ ثم إنّ كيلو العدس الآن بـ50 جنيهاً! 1500 جنيه لأكل العدس، و500 جنيه لشراء الخبز، لأسرة صغيرة، في بيتٍ دخله لا يجاوز 2500 جنيه في أحسن الأحوال، المتبقي لا يكفي ربما إلا فاتورةً واحدةً من الكهرباء والماء والغاز، فمن أين سيشترون الضحكة الضرورية المطلوبة؟

كلّ النكت صارت ماسخة، كلّ خطَب التنمية البشرية تستحق أن تمزّق في أقرب قمامة، كلّ الابتسامات على الشفاه على شفا الانتحار، كلّ الضحكات لم يعد لها مذاق، لأنّ الحلق به مرارةٌ تأبى أن يزاحمها اليوم، وبعد اليوم تحديداً، أي "اصطناع" آخر جديد، ولم يبقَ لأهل البلد الذي كان يحوي خزائن الأرضِ، إلا ربّ السماء، عساهم يجدون عزاءهم في قضائه القريب.

و"البحر بيضحك ليه ليه ليه.. وأنا نازلة أتدلع أملا القُلل؟! البحر غضبان.. مابيضحكش.. أصل الحكاية ما تضحكش.. البحر جرحه مابيدبلش.. وجرحنا ولا عمرُه دبل".