أريد لصاً

أريد لصاً

28 يوليو 2023
+ الخط -

في سنوات طفولتي الأولى، قام لص بسرقة جهاز التلفاز من بيتنا، فحرمنا بذلك من حلاوة الطفولة، إذ سرق منّا "سالي" و"بيل وسيباستيان" و"كاتلوي" و"لونا"... حرمنا، بكلّ ببساطة، من كلّ أبطالنا الكرتونيين، ربما ليشاهد نشرة أخبار التاسعة!

كنّا نذهب حيناً إلى بيت جارنا لنشاهد المسلسل الكرتوني مع أطفاله، وتارة نكتفي بالبكاء، ثم نلتقي بأصدقائنا في المدرسة ليحكوا لنا عن مستجدات الأحداث. وعندما ظهرت شخصيات كرتونية جديدة كانوا لا يألون جهداً عن وصفها لنا، حتى اعتدنا على حياة خالية من التلفاز، أو ربّما يئسنا وتعايشنا على مضض معها؛ فدخل أبي المحدود يومها لم يسعفه لشراء تلفاز جديد، ثم توافقت مع ظرفنا فتاوى تحريم التلفاز، وما لحقها من تحريم لجهاز الدش والأقمار الصناعية، فلطَّف حرماننا فتاوى جعلت من بيتنا نسخة عن بيوت الجنة الخالية من المفاسد البصرية!

ظللنا لفترة من الزمن نعيش في فراغ كبير دونه، حتى ملأناه على طريقتنا، صرنا نقضي وقتاً أكبر بالحديث إلى بعضنا، فيما كان أبي يصطحب معه للبيت عدداً أكبر من الصحف ليعوّض بها مع والدتي عن نشرة الأخبار المسائية. كانا يتبادلان قراءة الأخبار من الصحف بصوت مسموع، وكنّا نشعر بالحماس تجاه قراءتهم الجهرية، ونشعر كأنّنا أمام الإذاعة المدرسية، بل أمام بثّ تلفزيوني حي، فزاحمتهما على القراءة محاولة تقليد أداء المذيعين المصطنع، واستمتعت باللعبة!

ربما لم يلعب صغار مع أبويهم كما فعلت أنا وإخوتي مع والدينا، أما أوقاتنا الخاصة فقد ملأناها بالصحف والكتيبات والألعاب التفاعلية، امتلأت حياتنا ونسينا أمر التلفاز تماماً، ولم يدخل بيتنا تلفاز آخر إلا حين قرّر أحد إخوتي شراءه وقد صرت في مرحلة دراستي الجامعية.

أتعجب من إهدار الناس لمئات الساعات من حياتهم من أجل متابعة مسلسل ما لأشهر متتالية!

كان بالنسبة لي جهازاً مملاً ينجح في بثّ النزاع، فحينها لم يعد جهازاً يبثّ قناة تلفزيونية واحدة، ويتحلّق حوله كلّ أفراد الأسرة، بل صار يحوي مئات القنوات الفضائية، وكلّ فرد يريد اختيار قناة يفضلها، ومن الصعب اجتماع الجميع على قناة واحدة يستمتعون بمشاهدتها معاً كالسابق. وفي هذا الوقت، كانت الكتب والكتابة قد سرقتني من ذلك العالم، فلم أتابع في حياتي مسلسلاً مكسيكساً قط، وكنت أتعجب من إهدار الناس لمئات الساعات من حياتهم من أجل متابعة مسلسل لأشهر متتالية!

أخشى من أن تسرق القنوات المتعدّدة للأطفال طفولة صغاري وتركيزهم، ومهاراتهم التفاعلية، ولا أجد ألذ من جملة "يا ماما الحمد لله تلفزيون غلقيه"، فهي تشعرني بالطمأنينة من أنّ التلفاز لم يسرق طفولتهم بعد، فيما صارت تسرقني الآن وسائل التواصل الاجتماعي، التي تسلّلت إلى حياتي في البداية عبر بحث غوغل كمصدر معلومات في حال تعذر الحصول على الكتب، والبريد الإلكتروني كوسيلة مختلفة للتواصل، حتى سرقني "فيسبوك" من علاقاتي الاجتماعية الحقيقية، ولحقته برامج أخرى، وتحوّلت حياتي (كملايين غيري) إلى حياة وعلاقات افتراضية!

تتسلّل إلى جلساتي مع صغاري رسائل عبر البرامج المختلفة، فأجدني بدون وعي مني أنخرط في محادثات ونقاشات قد تستمر لساعات، مشتّتة انتباهي مع عدّة أشخاص وجهات في الوقت ذاته، لا يخرجني منها إلا احتجاج صغيراتي: "خلاص يا ماما يكفي تلفون!".

سرقني الإنترنت لا إرادياً من البيت، من سكينة الحياة مع الناس حولي، تسلّل إلى أكثر أوقاتي خصوصية، دخل معي إلى مطبخي، رافقني أثناء قيادتي للسيارة، بل إنّه يتخلّل صحوي بين غفوة وغفوة أخرى، فمن الذي سيأتي باللص القديم لينقذني من "كابل" الإنترنت؛ وينقذ بلدتي بأكملها منه!